فرصة أخيرة أمام اللبنانيين للمصارحة والإنقاذ

TT

مشكورٌ سعي الرئيس نبيه برّي، رئيس مجلس النواب اللبناني. أما إذا كان سيسفر عن عملية «انقاذية» تحول دخول لبنان في المجهول أم لا.. فمسألة أخرى..

لقد وعد برّي اللبنانيين قبل أسابيع بـ«عيدية». لكنه عندما كشف النقاب عنها جاءت مجللة بالحذر المفضي إلى التحذير من هاوية. وإذا كان العقلاء من اللبنانيين مدركين هذا الواقع المرير، فقد جاءت دعوة برّي إلى جلسة «تشاور» محددة بمدة، كزواج المتعة، أشبه ما تكون بإخلاء ذمة على اساس «أللهم أشهد أني بلغت».

في مطلق الأحوال، أعتقد أن ثمة حقائق أخذت تتكون منذ بعض الوقت في ذهن كل لبناني لم يتعرّض حتى الآن لعملية «غسل دماغ» كتلك العمليات التي تجيدها الأحزاب والتيارات المنزهة عن الخطأ.

في مقدم هذه الحقائق أن الاختلاف بين اللبنانيين، بدعم إقليمي ودولي، اختلاف على الأسس لا على التفاصيل. وأي كلام غير هذا، كلام يهدف إما إلى التضليل أو إلى كسب الوقت. هذا الاختلاف هو اليوم أعمق من أن يجرؤ القادة اللبنانيون ـ الذين اعتادوا على الصفقات الفوقية والجانبية ـ على مصارحة «قطعانهم» به. ولكن بما أنه ثبت بالتجربة والبرهان أن الصفقات الفوقية لن تجدي نفعاً، صار يفترض الاستنتاج بأن مواصلة الهروب إلى الإمام لا يمكن أن تؤسّس إلا لهدنة أخرى... تنتظر حرباً جديدة.

حقيقة ثانية، اعتقد أنها غدت واضحة لغير «مغسولي الأدمغة» هي أن لا تعايش في ظل مشاريع الهيمنة والمصادرة. ويتذكر كثيرون أن «اتفاق الطائف» إنما أقِرّ بهدف منع الهيمنة والتأسيس لدولة عصرية مؤسساتية، بيد أن ظروفاً ولاعبين محليين نافذين انتقوا من «الطائف» ما كان يناسبهم مرحلياً، وتجاهلوا عمداً بنوده الأخرى. وبالنتيجة، بدلا من الانطلاق منه نحو مزيد من عدالة التوزيع حصل نوع من النكوص العملي عن الإصلاح. فظهرت «المحاصصة الثلاثية» بين الطوائف الكبرى الثلاث بديلا لـ«الأحادية» السابقة، وبقي حلم الإصلاح الشامل سراباً خلّباً. والمشكلة اليوم أنه بينما يدافع البعض عن «الطائف» وكأنه جرى تطبيقه بالكامل... فبات قدس الأقداس، نرى قوى فئوية متشددة تطالب بإلغائه من أساسه قبل أن تطرح أمام اللبنانيين بديلا حقيقياً له. وأخطر ما في هذا «السيناريو» أن الفريقين الفئويين الساعيين إلى نسف «الطائف» من أساسه هما الآن في «تحالف تكتيكي» ضد خصم مشترك يتهمانه بالتسلط... وأيضاً بـ«الفساد والعمالة»، مع أنه من المشكوك فيه أن يتمكن هذان الفريقان من السير بعيداً في «تحالفهما» العجيب إذا ما نجحا في ضرب الخصم المشترك.

هذان الفريقان المتشددان يصرّان الآن على تشكيل ما يصفانه بـ«حكومة وحدة وطنية» تحت ضغط التهديد بتحريك الشارع إذا رفضت الأكثرية مطلبهما.

كما أنهما يتهمان خصومهما ـ يومياً ـ بالعمالة لإسرائيل وأميركا، لكنهما مع ذلك يريدان أن يتقاسما معهم وبالرغم منهم السلطة (!!!)، تماماً كـ«طالب القرب» الذي يصرّ بمباركة من أبيه وأمه على الزواج من عروسة، بينما لا توجد في المقابل موافقة لا من العروسة ولا من أبيها ولا من أمها. أما الذريعة المسوقة فهي أن «حكومة الوحدة الوطنية» منصوص عليها في «اتفاق الطائف» الذي يتجاهلان بنوداً أخرى فيه، فضلا عن كونهما يرفضانه أصلا.

فماذا، مثلا، عن بندي «اللامركزية الإدارية» وتأسيس مجلس للشيوخ؟

ماذا عن إعادة النظر في عدد المحافظات الحالية تمهيداً لاعتماد قانون انتخابات يستند إلى المحافظة كدائرة انتخابية؟

بل، ماذا عن جوهر «اتفاق الطائف» الذي يدعو إلى تآلف اللبنانيين ووحدتهم، بمعزل عن عقدتي الخوف والغبن؟

إن ابتزاز الشعب اللبناني تارة بالنزول إلى الشارع، وطوراً بـ«الأكثرية العددية» لن يزرع الطمأنينة في نفوس اللبنانيين... مهما كثر عدد «الدمى» المكلفة إقليمياً بمهام إنجاز «الاختراقات» الطائفية، وبالذات في الساحة السنيّة. ولن يشجع مكوّنات الشعب اللبناني على التعايش الحقيقي وجود جو إقليمي محموم يبرّر بسذاجة ممارسات الهيمنة المتسترة بشعارات «الممانعة» و«حماية المقاومة». مع العلم، أن مروّجي هذه الشعارات اليوم... كانوا من نفّذ الطلب الأميركي ـ الإسرائيلي بضرب المقاومة الفلسطينية والفتك بالحركة الوطنية اللبنانية بين عامي 1976 و1978.

وإذا كان من مجال لكلمات رصينة، علينا الاعتراف بإن الإفراط في التغاضي «القومي» عن تجاوزات النظام العراقي السابق، أدى إلى ردة فعل انعزالية داخل الشارع العراقي ـ حتى وسط تنظيماته التقدمية ـ مما سهّل الحركة أمام الاحتلال الأميركي والمستفيدين منه.

اليوم، مع الأسف، يتكرّر المشهد ذاته في لبنان وفي سورية وفي أماكن عدة من الوطن العربي، وكأن ثمة جهات لها مصلحة في تنفير كل قومي عربي وكل تقدمي حقيقي من هويته العروبية وقناعاته التقدمية... وهذه ظاهرة خطيرة للغاية.

فما لم يدرك أهل الرأي في الوطن العربي، ككل، ضرورة التنبه إلى مواطن الخلل داخل كياناتنا... والمبادرة إلى معالجتها، فإننا سنهدي العدو الخارجي مجدداً فرصة استغلال كل ما يستطيع استغلاله.

هذا العدو يعرف جيداً أين تكمن مصالحه، وهو سيستثمر كل الفرص المؤاتية له على حسابنا، فهل نساعده على ذلك؟ هل نكفّر أنفسنا وأخوتنا بقيم التعايش؟ وهل نسكت على زرع النفور والأحقاد بين مكونات كياناتنا؟ وهل نواصل الاستخفاف عمداً بمخاوف إخوتنا وشركائنا في الوطن... فندفعهم دفعاً إلى طلب الحماية الأجنبية؟

نحن، راهناً، أمام مرحلة صعبة يقدم لنا فيها النموذجان العراقي واللبناني أسوأ الإنذارات. والخوف كل الخوف أن نستعيض عن تنظيم التعايش بالاضطرار إلى الطلاق... وفق قوله ـ عز وجل ـ «إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان».