«عيديّة» نبيه بري: غلطة الشاطر بألف

TT

«العيديّة» هدية العيد بلغة عرب المشرق الدارجة، «الهدية غالبا صُرّة، أو حلوى، أو لعبة تهدى الى الاطفال».

وعد نبيه بري أطفال السياسة الكبار بهدية العيد، فاذا بها لعبة (فالصو) قديمة، «عيد بأية حال عدت يا عيد؟!». يثبت حكم اللعبة السياسية اللبنانية أن لا خيل لديه يهديها ولا... أخشى أن أقول ان العرض الكلامي الذي قدمه لم يسعفه أيضا، فلم يسعد منطقة زعماء اللعبة بأي حال من الاحوال.

غلطة الشاطر بألف! ونبيه بري مناور شاطر. هو قادر دائما من موقع حياده كرئيس لمجلس النواب، على تغطية انحيازه، لكن هذه المرة ارتكب غلطة الشاطر التي تعادل ألف غلطة، عندما عرّى تماما انحيازه الى «حزب الله» وسورية. فقد اعتبر حكومة «الوحدة الوطنية» هدية العيد الكافية لاستنفار «تلامذة» السياسة، والعودة بهم الى «مدرسة الحوار» التي أسسها في مارس (آذار) الماضي.

من عادتي أن أتوجه دائما الى القارئ ذي الضمير العربي. ولتسهيل فهم القارئ للمتاهة اللبنانية، أقول ان اسقاط حكومة السنيورة هو الهدف الاول في لبنان لـ«حزب الله» ولنظامي سورية وإيران، لأسباب استراتيجية، تتعلق بصميم الصراع والاستقطاب في المنطقة العربية.

اذا كانت الغلطة الكبرى في العنوان المنفر للموالين لحكومة السنيورة، فأغلاط بري تأتي ايضا في التفاصيل. حكومة «وحدة وطنية» عنوان استراتيجي جذاب ومغر لأي لبناني أو عربي، لكن لكل من المطالبين به أسبابه التكتيكية. النظام السوري يعتبر حكومة السنيورة شديدة الالحاح على المطالبة الدولية بدم الحريري، ايران وحزبها اللبناني يريدان ترحيل السنيورة، للاتيان بحكومة وحدة يتمثل فيها بقوة شيعية «حزب الله»، و«أمل»، وحليفهما المسيحي ميشال عون، وأنصار سورية. هذه الحكومة من شأنها اضعاف النفوذ العربي في لبنان الذي تمثله أساسا السعودية ثم مصر، وتجنيد لبنان في المواجهة مع أميركا لصالح ايران الساعية للتشييع السياسي والمذهبي للمشرق العربي السني والهيمنة عليه.

في المغالطة في التفاصيل، يحدد بري للحوار موضوعا رئيسيا (حكومة الوحدة) وآخر جانبيا وهو قانون الانتخاب. بري يريد قطع الطريق سلفا على المحاورين، والحيلولة دون التطرق الى موضوع «سلاح المقاومة» الذي تجمد الحوار عنده في السابق، عندما هدد «حزب الله» المطالبين بنزع سلاح ميليشياه، بالخنق وقطع الرأس واليد.

نبيه بري «علماني» يقود حزبا طائفيا (أمل)، وهو في عراقته اللبنانية وحرفته السياسية، يعرف ان الميليشيات تسببت بكوارث وحروب في لبنان. أشرت هنا سابقا الى محاولات ميليشيا الحزب السوري القومي القيام بأكثر من انقلاب. الميليشيات الفلسطينية هزت وتهز استقرار لبنان وأمنه، وتسببت مع ميليشيا حزب «الكتائب» المسيحية في الحرب الاهلية. وها هي ميليشيا «حزب الله» تتسبب في حرب مدمرة مع اسرائيل.

لماذا اصبح السنيورة اشد خطرا على لبنان من سلاح حسن نصر الله؟!

لأن السنيورة، على الرغم من خذلان أميركا له خلال العدوان الاسرائيلي الاخير، نجح عالميا وعربيا بتأكيد سيادة بلده، وحرصه على وجه لبنان العربي، وإصراره على مد السلطة اللبنانية ممثلة بجيشها الى آخر نقطة على حدود «حزب الله» مع اسرائيل، ليضمن عدم انفراد طائفة، او ميليشيا، او حزب، بقرار الحرب والسلم.

اخطأ بري في عدم استشارة الزعماء حول موضوع الحوار سلفا. كان يعلم برفضهم حصر الحوار بموضوع يفرضه والفريق الذي يمثله. من هنا كان فتورهم ازاء ضآلة «العيدية» ولولا نصيحة السنيورة وجنبلاط، لكان رفضهم تاما للعودة الى طاولة الحوار. اخطأ بري في تحديد موعد الحوار وزمنه (15 يوما)، وهو يعلم ان المحاورين الابرز من «الخصوم» كانوا على سفر. واضطر لتأجيله ريثما يعودون، الامر الذي يهمش مؤسسة الحوار التي همشت بدورها دور المؤسسة التشريعية.

اخطأ بري في اعفاء حليفه حسن نصر الله من المشاركة في الحوار، الامر الذي يؤكد ان بري استشار الحزب وسورية، فيما يعترف بإهماله استشارة زعماء السنة والمسيحيين الذين يعارضون اسقاط حكومة السنيورة.

بري ايضا مهندس طيبوغرافيا، يفهم في المسح العمودي والأفقي للطوائف. في دهاء حرفته، تعود لبنانيا وعربيا ان «يهندس» جسور الوصل والاتصال. يبني الجسور أمامه، يعبر عليها، لا ينسف سفنه وراءها، لكنه اخطأ في «هندسة» الشوارع: إما رأس السنيورة، وإما النزول الى الشارع!

السياسة لغة لبنانية صعبة، الزعماء يخاطبون طوائفهم وهم يدعون انهم يخاطبون لبنانهم. لغتهم السياسية والاعلامية اثارية واستفزازية. من هنا يأتي التهديد الدائم بالنزول الى الشارع. الطريف ان فريقي الموالاة والمعارضة المتنازعين، يحملان رموزا مختصرة (14 آذار و8 آذار)، تشير الى نزولهم الى الشارع. لكن اللبنانيين الذين جربوا جنون الحرب الاهلية غير راغبين بالعودة اليها. وحتى الانقسام الحالي ليس طائفيا: مسيحيو عون متحالفون ومتفاهمون مع شيعة «حزب الله». سنة الحريري متحالفون مع مسيحيي بطريرك الموارنة ضد الشيعة ونظام بشار. سنة سورية اللبنانيون متحالفون مع الشيعة ضد سنة الحكومة.

الواقع ان قلق سنة لبنان، هو من قلق سنة مصر والخليج وسنة المشرق الذين حملوا لواء العروبة منذ اكثر من مائة عام، ولم يخطر في بالهم يوما ان تتحالف سورية مع ايران، بصرف النظر عن المنطق الطائفي السائد. فالقلق العربي يأتي من هجمة ايران بعد صحوة نجاد الخمينية، واصرارها على تسليح ميليشيات شيعية في العراق ولبنان، وجعلها اساسا لرأس الحربة الفارسية.

في حياة نبيه بري خطايا أرجو من الله ان يغفرها، وفي حياته اخطاء لا يغفرها له الخصوم والأصدقاء. لكن مهندس الطيبوغرافيا (الطابو في لغة لبنان وسورية) قادر، في حرصه على مد يد الجسور، على الانضواء تحت معصومية حليفه اللدود حسن حزب الله، بقدر استطاعته الوصول الى قدس اقداس السنة.

في حواره الاخير مع الصحافيين، قال بري انه توسط للمصالحة بين السعودية وسورية، وفي اعتقادي، ان بري لم يقم بالمحاولة، الا بعدما استأذن الرئيس بشار. انحيازه المسبق للجار القريب ربما تسبب في اخفاق الوساطة. الدليل زيارة ابرز زعماء معارضة الخارج السورية للاراضي المقدسة، بعد عودة بري منها.

السعودية ليست ضد سورية، هي تفضل استقرارها وسلامها على اي «تغيير» يستعجله زوار واشنطن من الزعماء اللبنانيين. ليس حبا بالنظام السوري، لكن السعودية التي تداري بصمت استقرار المنطقة كلها، بما في ذلك الخليج ولبنان.

هناك شاطر آخر في اميركا اسمه جيمس بيكر، لا أدري، ما اذا كان زوار واشنطن اللبنانيون قد حاوروا «بري» أميركا. يقال انه هو ايضا ينصح بوش بمحاورة نجاد وبشار. ربما لن يهدأ لبنان، الا اذا ادار الثلاثة الحوار تحت الطاولة.

«الزعل» الخليجي والمصري من نظام بشار، هو في استغراب هذا الالتصاق بإيران نجاد في عرضه «البالون الشيعي» في المنطقة، وتأكيده على انه ليس مجرد فقاعة هواء من الآثار الشاهنشاهية القديمة، في المقارنة، يجد الخليجيون ان الاسد الراحل حرص على ابقاء شعرة معاوية في العلاقة مع الخليج، وبالذات مع السعودية، على مدى ثلاثين عاما.

يبقى في الذهن والخاطر سؤال لحسن نصر الله: هل تسمح ايران بإنشاء «حزب الله» سني في عربستان (خوزستان)، ينشئ بدوره ميليشيا مسلحة بصواريخ، حتى ولو ادعى انه يريد ان يقصف بها اميركا وإسرائيل؟! هل يجوز لشيعة لبنان ما لا يجوز لسنة ايران؟!