الإصلاح الدستوري في السعودية: المغزى.. التوقيت.. الهدف

TT

بإعلان نظام البيعة في السعودية، يكون الملك عبد الله بن عبد العزيز، دستوريا، قد أغلق أبوابا من التكهنات والتخمينات, كما انه حسم قضية كانت لفترات طويلة حساسة ومحل جدل ونقاش ما وراء الأبواب المغلقة، مع العلم ان سلاسة انتقال الحكم في المملكة تاريخيا، لم تشهد مصاعب أو خلافات تذكر، وظلت المسألة تحسم بشكل مرن وتوافقي باستثناء حالة عام 1964 التي ارتهنت لأسلوب الحسم وأنقذت البلد من أزمة حقيقية، رغم عدم وجود نصوص قانونية مكتوبة آنذاك تعالج هكذا إشكال، ومع ذلك كرس النظام السعودي حالة من الاستقرار السياسي الملفت في منطقة ملغومة ومتوترة سياسيا.

ورغم حقيقة الاستقرار السياسي والبحبوحة الاقتصادية ظلت مسألة تفاصيل نظام الحكم من الأمور المسكوت عنها، إلى ان جاء الملك الراحل فهد بن عبد العزيز قبل خمسة عشر عاما ليعلق الجرس مؤسسا اللبنات الأولى لنظام مؤسساتي ودستوري، بإعلان النظام الأساسي للحكم ونظام الشورى ونظام المناطق، وكانت البداية لتدشين مفهوم الدولة المؤسساتية، فتخلصت أنظمتها من الجمود وطورت العديد من هياكل أنظمتها بشكل تدريجي لترسخ دورها الاقليمي وعمقها العربي والإسلامي وثقلها الاقتصادي العالمي.

ولعل القراءة القانونية ترى ان النظام الأساسي للحكم (دستور الدولة) كان العلامة البارزة في تجذير النظام السياسي دستوريا، رغم ما اكتنفه من ثغرات قانونية، لا سيما فيما يتعلق بباب نظام انتقال الحكم، إلا انه لم يكن هاجسا آنذاك، فالخلل لم يكن في النظام بقدر انه ما كان هنالك ما يستوجب البحث في هكذا تفاصيل، فالمسرح السياسي آنذاك ضم ولي العهد والنائب الثاني، فكانت الاستحقاقات اللاحقة واضحة، فضلا عن ان الوضع العام مستقر والدولة تسير في مشروعها التنموي بسرعة مذهلة.

وعندما تولى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله استشعر مسؤولياته واستشرف المستقبل البعيد، فأراد تطوير نظام الحكم مراعيا الاستحقاقات القادمة والمتغيرات الراهنة داخليا وإقليميا ودوليا، وهذا يعني في ما يعني غلق الثغرات وما قد ينشأ من ظروف واحتمالات تهدد بفراغ دستوري قد ينشأ من غياب الملك أو ولي العهد أو كليهما معا، مما يعني ترسيخ مؤسسة الحكم واستمراريتها بفاعلية لتحقيق مصالح الوطن وحماية الوحدة الوطنية من التفكك والتمزق والانقسام.

والملفت، ان نظام البيعة جاء في وقت لا يعاني البلد فيه من أزمات سياسية أو أنه تحت ضغوط باتجاه اتخاذ هكذا خطوة، وكان بإمكان الملك التغاضي في الدخول بطرح هذا الملف الشائك والحساس، وتركه للأجيال القادمة، ولكن هنا تبرز حنكة الزعماء الخالدين وقدرتهم على اتخاذ القرارات الحاسمة طالما انها تنصب في ضرورات الدولة والمجتمع، فالسن والتوافقات لن تكون بالضرورة مجدية في المستقبل كما كانت في الماضي القريب، رغم أهميتها كموروث اجتماعي، ولكن تركيبة الحياة باتت معقدة وأنت لا تعيش بمعزل عن الآخرين، ولذا من الاهمية بمكان ان تكون دولة مؤسسات لا أشخاص لا سيما عندما يتعلق الأمر بالحكم ومصلحة البلاد والعباد. ويحضرني هنا ما قاله الامير سلمان بن عبد العزيز، عندما سئل عن مستقبل دول الخليج وتأثير غياب قادة الخليج عن دولهم بعدما أدوا الأمانة، فأجاب «ان غيابهم لا يعني الوقوف، لأن ذلك يعني النهاية، والدولة التي تقوم أو تعتمد على فرد تسقط بسقوط هذا الفرد»، لأن الدولة تمثل الاستمرارية والبقاء فلا تنقطع بغياب هذا القائد أو ذاك. وهذا ما يفسر إيجاد دولة المؤسسات بالارتهان إلى القوانين والأنظمة التي تهيئ بآليتها الصالح الأكفأ والأقدر لتولي سدة الحكم. وهي مقومات وقواعد أسسها الملك المؤسس وان لم تكن مكتوبة، ليأتي الملك الحالي ويجعل من الترشيح ومبدأ التصويت وقبول القرار بالأغلبية قانونا يحتكم إليه عند الحاجة ليترجم معنى الاستقرار السياسي على أرض الواقع ويقويه مهما كانت شدة العواصف والرياح التي ربما تهب في يوم ما.

وبالعودة الى القراءة القانونية، نقول أولا ان الدستور عادة ما يتكون من أبواب محددة، يهدف منها إلى وضع مجموعة من القواعد كخطوط عامة رئيسية لتبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها مع تبيان ركائزها الثلاث التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، وتكوينها وتوزيع السلطة بينها بشكل يبين اختصاص كل منها بسلطات محددة وعلاقاتها مع بعضها البعض، بالإضافة الى انها تتكفل ببيان حقوق الأفراد الأساسية ومقومات الدولة ومواردها المالية وكيفية تصريفها وما الى ذلك من أمور اجتماعية واقتصادية وغيرها. وقد احتوى النظام الأساسي للحكم على هذه الأبواب، إلا ان الباب الثاني المتعلق بنظام الحكم عانى من ثغرات قانونية وتحديدا في المادة الخامسة فقرة ‌ب التي تنص على ان – «يكون الحكم في أبناء الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود وأبناء الأبناء… ويبايع الأصلح منهم للحكم على كتاب الله تعالى وسنة رسوله»، حيث لم توضح الآلية التي يمكن من خلالها مبايعة الأصلح من الأسرة المالكة. ولذا أرى ومن زاوية قانونية أن نظام البيعة جاء كلائحة او مذكرة تفسيرية توضيحية إن جاز التعبير، لها طبيعة الإلزام لباب نظام الحكم المتضمن اربع مواد (5 ـ 8) في النظام الأساسي للحكم (الدستور). والحقيقة لا تهم المسميات بقدر ما ان المهم يكمن في المضامين، ومع ذلك فالمصطلحات القانونية لا سيما في هذا الجانب الدستوري تبقى هامة ومفصلية. هذا النظام (المذكرة التفسيرية) أضاف وعدل وفسر باب نظام الحكم الوارد في النظام الأساسي للحكم. وجاء كآليات. فشرح الفقرة (ب) وتم تعديل فقرة (ج) بأمر ملكي، وأضاف الآليات لتعيين ولي العهد (وهي تطابق المادة الرابعة من الدستور الكويتي) لتفض أي نزاع او خلاف ينشأ حول ولاية العهد، وأشار لكيفية التعامل مع الحالات الممكن حدوثها من عجز او مرض او وفاة الملك او ولي العهد او كليهما معا، حتى لا يحدث فراغ دستوري، فأوكلت للهيئة بمبايعة ملك جديد، وألزمت مجلس الحكم المؤقت بإدارة تصريف شؤون الدولة بشروط حددها النظام. ولذلك يمكن القول إن الدساتير تكون شاملة ولها أطر عامة، وليس من طبيعة الدساتير ان تتطرق للتفاصيل؛ اذ توكل ذلك لمذكرات تفسيرية تلحق بالدستور، تشرح المعنى العام الوارد في مواد الدستور. وهو ما لم يتوفر في النظام الاساسي للحكم، مما أوجد ثغرات قانونية.

فالبيعة والتوريث المحكوم بالكفاية والصلاح، كمفاهيم، موجودة منذ زمن، غير ان الجديد يكمن في الآلية الدستورية التي كفلت للهيئة حق التصويت، وتكون قراراتها بالأغلبية. فضلا عن رزمة المواد القانونية التي جاءت كآلية محددة لكيفية التعامل مع كافة الحالات الناشئة والمتوقعة لانتقال سلطة الحكم.

وبما ان دستور الدولة يرتكز على الكتاب والسنة كمصدرين أساسيين، فانه من الطبيعي ان يستند نظام الحكم على البيعة التي لها مرجعية في التشريع الاسلامي، وهي التي تضفي الشرعية على نظام الحكم، وهي عقد يتكون من ثلاثة أطراف هي الحاكم والأمة والشريعة.

والبيعة نوعان: أولية وعامة. فالأولية يقوم بها أهل الحل والعقد، وبموجبها ينعقد الحكم للشخص المبايع (بفتح الياء)، وهو ما يتوافق مع المادة السادسة من نظام البيعة. وهذا يعني ان هيئة البيعة تمثل بيعة الانعقاد لمجموعة من أهل الحل والعقد من أبناء المؤسس وأبناء الأبناء.

اما البيعة العامة (الطاعة) فهي بيعة للعامة من الأمة. ولذا فهي بيعة على السمع والطاعة، كما يرى البعض.

ومن خلال متابعتي لما كتب حول النظام، وجدت ان البعض وصفه بأنه رابع اركان الحكم بعد النظام الاساسي للحكم ونظام الشورى ونظام المناطق. والبعض الآخر رأى أن يدمج مع النظام الاساسي للحكم. كما ان هناك من رأى تداخلا بين صلاحيات مجلس العائلة وهيئة البيعة، والبعض لم يعلم أن هذا النظام لا يسري على القيادة الحالية، والبعض رأى أن بإمكان الملك ان يعدل في النظام متى شاء، بما ان له الصلاحية في تعديل النظام الاساسي للحكم (الدستور).

اقول بالنسبة للنقطة، تم التطرق لها في بداية المقال، اما دمج النظامين فانني اعتقد أنه طالما ان النظام جاء لغلق الثغرات في الباب الثاني من النظام الاساسي للحكم وانه مقتصر على مواد متعلقة بآلية نظام الحكم، فان دمجه يخالف تركيبة الدساتير من كونها تحمل أطرا عامة ولا تدخل في التفاصيل، حيث يبقى هذا دور المذكرات التفسيرية، كما أنه في عرف الدساتير ان تغييرها او تعديلها مهمة صعبة وشاقة ومعقدة إجرائيا وغير محبذة. ولو كان لي من رأي فاني أميل الى تغيير المسمى من نظام البيعة الى المذكرة التفسيرية لنظام الحكم الوارد في الباب الثاني من النظام الأساسي للحكم.

اما لمن يرى بتداخل الصلاحيات بين أعضاء الهيئة ومجلس العائلة، فانني لا أجد شيئا من ذلك، على الأقل في رأيي الشخصي، فالأولى تمثل مؤسسة الحكم ودورها دستوري كونها من صميم النظام وتمثل ذرية المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن من الأبناء واختيارهم بقوة النظام، وهي معينة بالسلطة، ولذا فعضويتهم ملزمة. أما مجلس العائلة فانه يضم ممثلين لجميع شرائح الأسرة المالكة (آل سعود). وتم تعيينهم من قبل الملك. ودورها ينصب على شؤون الأسرة وقضاياها الداخلية، أي ان دور هذا المجلس اجتماعي وليس له دور سياسي.

بالنسبة لسريان القانون من حيث الزمان، فلم يتنبه البعض مما ورد في الأمر الملكي الصادر بإعلان نظام الهيئة، من ان أحكامه لا تسري على الملك وولي العهد الحاليين، وهذا ما يسمى في القانون عدم رجعية القانون، كما انه في ذات الوقت لا أثر مباشرا له، بل يقتضي وجوب سريان أحكام النظام الجديد على الوقائع اللاحقة لصدوره وتحديدا عندما تحين مبايعة الملك، وهو ما يعني مناداة ولي العهد ملكا من قبل هيئة البيعة. أما مسألة صلاحية الملك في التعديل، فان النظامين يختلفان في طريقة تغييرهما أو تعديلهما؛ فالنظام الأساسي للحكم (الاصل) للملك الحق في تعديله كما نصت المادة (83)، في حين ان نظام البيعة (الفرع) يجيز للملك تعديله، ولكنه اشترط موافقة الهيئة، كما جاء في المادة (25).

ومن زاوية قانونية دستورية، نرى أنه طالما اشترط نظام البيعة على إلزامية موافقة الهيئة على أي تعديل فيه وهو الذي يركز على نظام الحكم لما له من أهمية قصوى، فانه من الطبيعي أن ينسحب هذا على النظام الأساسي للحكم كونه الأصل.

صفوة القول وما يمكن قوله عن خطوة الملك الدستورية، إنها تمثل أهم قرار تاريخي في الدولة السعودية الحديثة بعد قرار الملك المؤسس بتوحيد المملكة، وسيذكر التاريخ للملك الحالي أنه وطد دعائم الاستقرار السياسي في بلده وانها دولة مؤسسات لا أشخاص.