مشكلة القطط مع «اللحم المكشوف»

TT

ما كان مفتي استراليا، الشيخ تاج الدين الهلالي، ليواجه الغضب نفسه الذي لاقاه في سدني، لو أنه أدلى برأيه في النساء، من على أحد منابر القاهرة أو الدار البيضاء او حتى بيروت. حيث تشييء النساء وقدحهن، هو من حواضر الخطاب اليومي، وملح الطُرف الرجالية. فليس مستهجنا القول في لبنان مثلاً، بأن «النساء كالزيتون الذي لا يحلو إلا بالرصّ» و«المرأة كالسجادة العجمية تزداد تألقا بالضرب». أما المرأة العاملة فهي «بقرة حلوب» والقبيحة «سندويش» إذا ما قورنت بالجميلة التي هي أقرب إلى «وليمة» شهية.

وفي كل دولة عربية، بمقدورك أن تقع على مرادفات لهذه الأمثال الشعبية، لا تقل براعة عنها، في الحط من قدر بنات حواء وتحقيرهن، وإنزالهن إلى الدرك الأسف، بصرف النظر عن أزيائهن، ما كشف منها وما ستر.

والشيخ الهلالي، المهاجر من القاهرة إلى سدني، منذ ما يقارب ربع قرن، هو سليل هذا الموروث اللغوي ـ الاجتماعي المعتق، والمكتنز بالصور والاستعارات التي تنقل المرأة من الطور الآدمي إلى حيز الجمادات الميتة، وفي أحسن الأحوال تبقيها في الخانة البهائمية. وبالمناسبة، قد لا تكون صدفة أن نقول للرجل بأنه «ماشي» في ما المرأة «ماشية»، لنتذكر عن غير قصد بهائم الأنعام. واللغة في هذا المجال ظلمت المرأة «النائبة» و«المصيبة»، وقس على ذلك الكثير.

وكل ما فعله مفتي سدني، هو أنه اضاف إلى مخزونه من صور الحريم، أخرى للرجل تتناسب معها، فتضاعفت الوطأة البلاغية على السامع.

فبينما اعتبر شيخنا المرأة غير المحجبة كتلة من «اللحم المكشوف» الموضوع في الشارع أو الساحة الخليفة، وجد أن الرجال في هذه الحالة، يصبحون كـ«القطط» المستشرسة على رزقها. وإن كان في كلامه قد سلخ عن المرأة روحها والإنسانية، وجردها من بشريتها، فقد طال الرجال منه أذى أكبر وأدهى، لو كانوا يعلمون. فهم والحالة هذه قطط ضآلة، لا تستأنس أو تروض أو تردع، وكل ما ينفع معها هو إخفاء اللحم وراء الحجب.

والاحتجاب في تراثنا، لم يفرض على المرأة وحدها، بل طال الوقائع والصور والأحداث الجسام، مما جعل التزييف قاعدة، وإزاحة الستار عن المحجوب يتركه عرضة للنهش والابتلاع، وربما الاختفاء. ورغم ان «كل محجوب مرغوب» إلا ان «الحجب» و«الاحتجاب»، بقيا من المفردات المدللة في تاريخنا والتراث، وصولاً إلى زمننا الرديء هذا.

يبقى ان «الستر» يتفاوت في الحضارت، وتتعدد مفاهيمة. فقد روى الألسني المعروف رومان ياكبسون في أحد كتبه طرفة حقيقة تقول، ان مبشراً التقى أحد أفراد قبيلة من عاداتهم العري، فقال له: ألا تخجل من إظهار جسدك. فأجاب فرد القبيلة: وأنت الا تخجل من إظهار وجهك. فقال له المبشر: انه وجه. فأجاب فرد القبيلة: وأنا جسدي كله وجه.

نعم، الحياة وجهات نظر، وكلام مفتي أستراليا، رغم ما أثارت حرفيته من جدل، ليس إلا وجهة نظر، تكمن أهميتها في ما تحمله من دلالات حبلى بمعان ومؤشرات تدعو للهلع، وضرورة التنبه لسوداوية ما هو آت. إذ لم يكتف شيخنا بتجريد المرأة من نبض أو حياة، وإنما قرن بها نصفاً آخر، سليب الإرادة، لنكتشف معه ان «الفرد» بحسب اجتهاده، ولو كان ذكراً، يبقى قاصراً عن بلوغ سن الرشد ما حيا.

«ونظرية القصور» هذه التي أطلقها الشيخ جهاراً، من دون قصد أو تعمد، تسير على هديها، إضافة إلى العلاقات بين الجنسين، الصلة المتوترة بين الحاكم والمحكوم، كما الجيرة العربية ـ العربية التي باتت تخضع لمبدأ «التهم شقيقك ظالماً أم مظلوماً».

وبالعودة إلى مشكلة القطط مع «اللحم المكشوف» أو المغطى، فهي قديمة وشائكة، تتغير حدودها، كما تتغير مواقع الكثبان الرملية في الصحارى، بفعل العواصف والرياح. وكل مد وجزر في الأفكار والمتغيرات السياسية يحمل معه حدوده وقوانينه واجتهاداته. وواضح أن أزمة السفور والحجاب تتمفصل باستمرار مع تموجات الكلام على الأصالة والمعاصرة، الشرق والغرب، التأخر والتقدم، القديم والجديد. الدنيا تتغير، ونبقى نراوح مكاننا على ما يبدو، أو نتقدم خطوة لنتأخر خطوتين، ونعلق بين المتشددين والأقل تشدداً. فقد كانت أزمة المسلمين مع الفرنسيين، منذ سنوات قليلة، هي إقناعهم بضرورة قبول حجاب الشعر، ثم وجدنا ان مسلمي انكلترا يجاهدون اليوم من أجل التمسك بنقاب الوجه واعتباره حقاً دينيا لهم. ولكن عند حسن الترابي بالإمكان الكشف عن الشعر والوجه معاً. وقبل كل هذا، كانت جداتنا يحدثننا عن أن صوت المرأة عورة. وثمة نساء يضعن أصبعهن في فمهن عند الكلام، كي لا يثرن الرجل بنعومة حناجرهن.

وجذر «عورة» متأت من «العور» أي التشوه في النظر. وثمة انخفاض شديد في مستوى الرؤيا عند عدد من المسلمين المقيمين في الغرب عموماً، حيث باتت الصحف اليومية تتساءل عن سبب رفضهم لأي اندماج أو انسجام. وهذا صحيح في أستراليا مروراً بفرنسا وإنجلترا وهولندا، وصولاً الى النمسا والدنمارك، حيث تطفو على السطح حكايات المحجبات والمنقبات واحتجاجات على رسوم أو عبارات عابرة في مقالات صحافية. وهي قضايا في طبيعتها، تؤكد غلبة الظاهري الشكلاني على المتن والجوهر عند مسلمي اليوم. وهو ما يفسر انحدار مستوى الخطاب، ليس فقط على لسان بعض رجال الدين، وإنما على كل منبر، بما فيها الأكاديمي والإعلامي. وليس غريباً بعد كل هذا، أن نرى الرجل، وقد كان منذ سنوات قليلة فقط، هو الذي يخنق القط في ليلة العرس، فإذا به في خطاب الشيخ الهلالي ـ وهذا ليس بقليل ـ هو القط الذي ينتظر من يخنقه، قبل الانقضاض على «اللحم المكشوف» او بعده.

[email protected]