دروس التاريخ.. من فيتنام إلى العراق

TT

لست من الذين يعتقدون أن التاريخ يعيد نفسه، بل على العكس فإنني ممن يعتقدون أن هناك دائما جديدا تحت الشمس، وأن الإنسان لا ينزل أبدا إلى نفس النهر مرتين. ومنذ الغزو الأميركي للعراق، فإن السيناريو الفيتنامي لمصير الولايات المتحدة في بغداد كان مطروحا في صحف عربية، أملا في يوم يأتي، يفر فيه الجنود الأميركيون، كما فروا من فوق سطح سفارتهم في سايجون، كما كان مطروحا في صحف أميركية خوفا من نفس المصير. ولكن ذلك الجزء من الصورة، كان جزءا من مشهد أوسع بكثير من وضع الولايات المتحدة في الحالتين. ونادرا ما تذكَّر أحد، ماذا جرى لفيتنام بعد الخروج الأميركي، ولا ماذا جرى في منطقة شرق آسيا بعد الانسحاب. وهما جانبان من القصة آن الأوان لكي ننظر إليهما بعيون بصيرة وعقول واعية.

لقد اعترف الرئيس الأميركي مؤخرا، بوجود قدر من المشابهة بين حالة أميركا في العراق مع ماضيها في فيتنام، حينما عجزت الولايات المتحدة عن تحقيق أهدافها في الحفاظ على فيتنام الجنوبية كدولة غير شيوعية، وحينما تحملت خسائر فادحة، وحينما انقسم الرأي العام الأميركي على الحرب وبات يتحرق شوقا إلى يوم ينسحب فيه. ولكن الحالة في فيتنام نفسها، كانت مختلفة تماما عن الحالة العراقية، فبينما كانت قضية فيتنام الشمالية هي الوحدة تحت الراية الاشتراكية الشيوعية لشخصية تاريخية وقومية مثل هو شي منه، فإن القضية العراقية على العكس هي التفتت والانقسام تحت رايات سنية وشيعية وكردية بلا شخصية قومية واحدة. وبينما كانت المعركة في فيتنام جزءا من المعركة العالمية بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، وما بين الآيديولوجية الديمقراطية والآيديولوجية الشيوعية، وما بين الولايات المتحدة وحلفائها من ناحية والاتحاد السوفيتي وحلفائه من ناحية أخرى، فإن المعركة الراهنة في العراق، هي جزء من معركة سابقة في الشرق الأوسط حول تصفية الحرب الباردة بالإطاحة بصدام حسين الذي لم تتم الإطاحة به عام 1991، ومعركة حالية بين الغرب وأصوليات قومية ودينية متنوعة.

وما بين عامي 1965 و1974، كان مسرح عمليات الحرب الفيتنامية ممتدا إلى كل جنوب شرق آسيا، حيث كانت الحرب ساخنة بالفعل بالحملات العسكرية الأميركية في كمبوديا ولاوس، وباردة بحركة الجماعات والأحزاب الشيوعية المسلحة وغير المسلحة في منطقة الهند الصينية، حتى تصل إلى اندونيسيا في الجنوب، مرورا بماليزيا وتايلاند والفلبين وبورما. وحينما انتصرت القوات الفيتنامية الشمالية في الحرب رغم خسارتها لثلاثة ملايين نسمة، أو قررت الولايات المتحدة الانسحاب، لأنها من ناحية لا تستطيع استخدام الأسلحة النووية، ومن ناحية أخرى فإن الخسائر وصلت إلى 58 ألف قتيل، فإن النتيجة المنطقية كانت انتصارا هائلا للشيوعية ماديا ومعنويا.

وفي الحرب الحالية فإن المنتصر لن يكون واحدا أو لسبب واحد. فالأصولية الشيعية في إيران والعراق سوف تكون منتصرة لأنها حصلت على السلاح النووي في الأولى، والهيمنة على العراق في الثانية. والأصولية السنية سوف تعلن الانتصار ليس لأنها وحدت العراق الذي تفكك، ولكن لأنها أجبرت القوة العظمى على الرحيل، ومن ثم آن الأوان لاستئناف «الغزوات» في مناطق أخرى قريبة وبعيدة. وبالتأكيد فإن الأكراد سوف يحصلون على نصرهم لحظة أن تأتى الدولة ـ بعد انتظارها لعقود طويلة ـ لهم مع انهيار الدولة العراقية.

وخلال السبعينيات في جنوب شرق آسيا كانت الهزيمة الأميركية جرس إنذار ضخم لدول الإقليم، لو سقطت جميعها تحت الأقدام الشيوعية. وللحقيقة، فقد كانت التجربة الفيتنامية بعد الانتصار التاريخي بالغة التعاسة، وفرض الحزب الشيوعي المنتصر على الشعب الفيتنامي من الهيمنة والسيطرة والذل، ما لم ينافسه فيه إلا الحزب الشيوعي في كوريا الشمالية. وظل الحال كذلك حتى نهاية التسعينيات حينما أدرك القادة الشيوعيون أن استمرار الأحوال من المحال، فاقتربوا تدريجيا من النموذج الصيني للإصلاح الاقتصادي القائم على فتح الأبواب للشركات الدولية المتعددة النشاط، والأميركية منها خاصة. فعاد الأميركيون من شباك الاقتصاد بعد خروجهم من باب السياسة.

وكان رد فعل دول جنوب شرق آسيا قائما، أولا، على تحقيق إصلاح اقتصادي يكفل معدلات عالية للنمو لم يشهدها العالم خلال القرنين الأخيرين، فخرجت النمور الآسيوية، وأعقبتها الفهود الآسيوية أيضا، حتى وصلت العدوى إلى الصين، ومن بعدها الهند. فصارت المنطقة كلها قاطرة للاقتصاد العالمي من ناحية، وتحديا هائلا للفكرة الشيوعية من ناحية أخرى، أدت إلى تقلصها وتراجعها في معظم دول الإقليم. وثانيا، أصبح الإصلاح السياسي ممكنا عندما تصل معدلات النمو الاقتصادي إلى ما يكفي من عزلة العناصر المتطرفة بالقومية أو بالدين أو بالفلسفة في المجتمع. وهو ما جرى بالفعل في كوريا الجنوبية وتايوان وإندونيسا والفلبين وبأشكال مختلفة، في باقي دول الإقليم. وثالثا، جرى بناء الإقليم الذي كان يشكو من كل حالات الحروب الأهلية والانقسامات الدينية والعرقية، من خلال تطوير رابطة دول جنوب شرق آسيا ـ آسيان ـ ومن بعدها خلق التجمع الاقتصادي لدول آسيا والباسفيك ـ آبيك ـ التى تجمع تحت لوائها الولايات المتحدة والصين. وببساطة كانت الهزيمة الأميركية في فيتنام، ليست بداية لانتصار الشيوعية بل الحقيقة هزيمتها هي الأخرى وانتصار الإصلاح والتطور الاقتصادي والاجتماعي لدول الإقليم، القادرة بالرؤى والعمل على التعامل مع أوضاع استراتيجية بالغة التعقيد.

مثل هذه الحالة ليست موجودة بالتأكيد في منطقة الشرق الأوسط، ولا يوجد ما يمنع أن تسطر الهزيمة الأميركية في العراق، وانتصار أشكال مختلفة من الأصوليات القومية والدينية، بداية التفكيك لدول المنطقة والحروب الأهلية والإقليمية. بداية تاريخ جديد للمنطقة، يختلف تماما عما جرى في جنوب شرق آسيا. والحقيقة أنه لا يوجد نقص في التجارب الماثلة أمامنا في المنطقة، فقد كان الفشل الأميركي ـ والدولي والعربي والأفريقي ـ في الصومال، بداية لحرب أهلية طويلة نجم عنها ظهور عدة دول صومالية. والآن جاء دور المحاكم الشرعية، لكي تضيف انقساما جديدا إلى الانقسامات السابقة، وتبدأ حربا إقليمية مع جيرانها المسلمين والمسيحيين معا. وربما تشعر دول وجماعات في المنطقة، بنوع من الأمان الزائف. وكما قيل لنا من عراقيين كثر أن الحرب الأهلية مستحيلة، قيل لنا ولغيرنا أن الدم الفلسطيني يمثل خطا أحمر على جميع الفصائل الفلسطينية؛ ولكن المشهد الراهن يقطع بأنه لا توجد في منطقتنا سقوف للتعصب العرقي والمذهبي، ولا يوجد دم محرم مهما كانت المقدسات.

معنى ذلك، أن الفشل الأميركي في العراق، وهو الأمر الأكثر ترجيحا في هذه المرحلة، لن يعنى بالضرورة بداية سعيدة لدول المنطقة المختلفة. ومن الجائز تماما أن تتعلم أميركا الدرس، كما تعلمت من فيتنام حتى عادت مرة أخرى لكي تصفي الشيوعية كلها وتفكك الاتحاد السوفيتي كله، ومن بقي من شيوعيين بات يتمسح في اقتصاديات السوق. ولكن مشكلة أميركا في النهاية تخص الأميركيين، وما يهمنا هو كيف ستتعامل دول المنطقة مع الوضع الجديد، مع إدراك دول الإقليم ـ العربية وغير العربية ـ أن أمريكا عادت إلى شواطئها تلعق جراحها. وبالتأكيد، فإن بوسعها أن تتعلم من التجربة الآسيوية، وتفعل كما فعلت دول جنوب شرق آسيا، أن تعيد تشكيل الإقليم من جديد، أو لا تفعل ذلك، فتخلق تاريخا جديدا، على الإطلاق؟!