اعتراف متأخر جدا

TT

مناشدة اسرائيل الولايات المتحدة، بلسان المتحدث باسم وزير الدفاع بنيامين بن اليعزر، «بذل كل ما في وسعها لاقناع عرفات بوقف العنف»، اعتراف متأخر جدا بان العنف لا يولد سوى العنف وان الثورات الاستقلالية لا تلغيها رصاصة او صاروخ ولا تقضي عليها حتى غارات مقاتلات «الفانتوم» العشوائية.

ولكن المتحدث الاسرائيلي الذي حنّ مجددا الى «الدور» الاميركي في نزاع الشرق الاوسط اخطأ كما يبدو «العنوان».. فلو كان واقعيا في مناشدته لوجهها الى رئيسه أرييل شارون بالذات لا الى وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد .

شيئا فشيئا تقر اسرائيل ـ وان بشكل غير مباشر ـ بان سياسة «العصا الغليظة» فشلت في اسكات الانتفاضة وان استمرارها قد لا يجدي نفعا. وحصيلة الضحايا المتزايدة يوما بعد يوم تثبت أن انتصار ارييل شارون في انتخابات رئاسة الحكومة الاسرائيلية الاخيرة لم يحسن «أمن» الاسرائيليين بل زاده تدهورا. وإذا كان لجوء اسرائيل الى الولايات المتحدة يبتغي، ظاهرا، استدرار «ضغط» اميركي على السلطة الفلسطينية فهو يتوخى، ضمنا، احتواء الانتقادات الدولية للمنحى الشاروني الشهير في الاستعمال المفرط للقوة، خصوصا بعد أن حول المواجهة الامنية مع الانتفاضة الى حرب نظامية يشنها بكل الاسلحة المتاحة له.. باستثناء الرادع النووي.

الا أن التصعيد الاخير في المواجهة الاسرائيلية للانتفاضة يثبت أن شارون لا يزال اسير مفهومه العسكري للسياسة، وهو المفهوم الذي اوقعه في اكثر من مجزرة في تاريخه العسكري المعروف (القبية وصبرا وشاتيلا). ووضعه في اكثر من مأزق في تاريخه السياسي. وفي شهادة «حركة السلام الان» الاسرائيلية من ان شارون أقام 15 موقعا استيطانيا جديدا في الضفة الغربية، منذ توليه رئاسة الحكومة، ما يكفي دليلا على انه لا يزال يمارس السياسة الاستعمارية للرعيل الصهيوني الاول، وان السلام بالنسبة له لا يتجاوز مطلب ضمان «أمن» الاسرائيليين بأي ثمن دموي كان.

في هذا السياق بالذات يمكن ادراج رفض شارون طرح اية رؤية سياسية واقعية لتسوية النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي طيلة الاشهر التسعة المنقضية من عمر الانتفاضة، واعتماده على القوة المجردة في مواجهتها. الا أن ما لا يدركه شارون بعد، ان تجاهله للحقوق البديهية للفلسطينيين يزيدهم تمسكا بها واصرارا عليها. وفي اعقاب تدميره المتعمد للبنى التحتية الفلسطينية لم يترك للمقاوم الفلسطيني ما يخسره في كفاحه الاستقلالي سوى الارواح البريئة التي اثبت اكثر من مرة عن استعداده لبذلها رخيصا في سبيل الاستقلال.

من هذا المنظور، لم يعد عامل الزمن لصالح المفهوم العسكري الشاروني، فالتضحيات الجسام التي تكبدها الشعب الفلسطيني لم تعد تسمح لقياداته السياسية بقبول الشروط «الاوسلوية» للتسوية ولا بقبول قيام دويلة منزوعة السلاح ومبتورة السيادة ولا بالتخلي عن حق العودة للنازحين كشرط اساسي للتسوية.

عند هذا المنعطف الدقيق في مسار الكفاح الفلسطيني، قد يكون ارييل شارون ـ وما يمثله ـ أفضل «هدية» لمعركة الاستقلال الفلسطيني.. وان كانت «هدية» مكلفة جدا.