نيرون أول من استخدم أسلوب التعذيب النفسي

TT

المحزن أن هذا الوحش الذي نسميه (التعذيب الجسدي والنفسي) ما زال يحصد ضحاياه غير عابئ بكل قوانين الرحمة السماوية، ويقهقه بسخرية مما ورد بوثيقة حقوق الإنسان.. ومجرد إلقاء نظرة على ما سطّره لنا التاريخ القديم، ندرك أن أفاعي هذا التاريخ تطل علينا بفحيحها في قسوة ما بعدها قسوة!.

لنجتزئ هذه الكلمات التي سطرها تاريخ الملك الآشوري (آشورنا ناصربال)، حيث ورد على لسانه التالي:

«لقد اقتحمت الجبل.. وانحطت جيوشي على قاع عدوي اللعين (هولاي).. حطمت الأبواب، وفضضت أختام المدينة العاصية.. ستمائة محارب عرضتهم على السيف، وتدحرجت رؤوسهم عند قدمي.. ثلاثة آلاف من أهالي المدينة ألقيت بهم أحياء في المحارق.. أخذت (هولاي).. ركع عند قدميّ ذليلاً مهاناً، حيث توسّل بي قائلاً:

«أنت مليكي.. سأعبدك إلى آخر لحظة في حياتي وأقدم القرابين في معبدك، يا مولاي.. إني أطمع في رحمتك!!» سترى رحمتي قبل أن تذهب إلى عالم النسيان!! اسلخوه حياً.. ثم علقوا جلده على سور قصري.. والقوا بما تبقى منه للنمل!!».

هذه الوثيقة الآشورية مجسدة في رسم حائطي في المتحف البريطاني، وهي عبارة عن رؤوس ممزقة وأشلاء آدمية، وعيون اقتلعت من مآقيها.. وآذان صُلمت.. مئات من الخوازيق يجلس عليها المعذبون لتمزق أمعاءهم، وتخرج من أعناقهم أو من قمة رؤوسهم!!

*** وإذا ما انتقلنا إلى الحضارة الاغريقية لنقرأ بعض السطور التي كتبها ارسطوفانيس في مسرحية الضفادع.. نجده يتغنى برومانسية مفرطة بجمال الجسم الإنساني فيقول:

«اليوناني من فرط حبه لجمال الجسم البشري، لا يمكن أن يمد له يداً تكون سبباً في تشويهه».

وقد كان ارسطوفانيس كاذباً في ما زعمه من احترام اليونانيين للجسم البشري، فهو نفسه كتب في مسرحية أخرى، ما يدحض ما قاله في مسرحية الضفادع عندما أخذته العنجهية العرقية في أحد مشاهد مسرحياته، فنسي نفسه وذكر حقيقته فأنطق أحد أبطاله بتطبيق أبشع وسائل التعذيب، إذ قال:

«أما وقد ظفرت يا صديقي بعدوك، فاربطه بالحبال، وشد وثاقه الحديدي، ثم اجلد ظهره بسوط. ضع في نهايته قطعا من الحديد المسنن.. فإذا فقد الوعي فأنعشه بالنبيذ، ثم أنعم عليه بجرعة ماء.. فسيفيق، ويظن أنه نجا من يديك.. إنه واهم.. فعليك أن تربط أطرافه بالحبال بجياد شرسة.. قبل أن تطلقها في الجهات الأربع.. أذقه عذاب الخل وهو يصب في مآقي عينيه وفتحات أنفه وفمه، ثم بخنجر ماض انتزع من بين فخذيه رمز رجولته.. ثم أطلق الجياد لتذهب إلى كل ناحية بما بقي منه!!».

بهذه البشاعة كانت الحضارة اليونانية تصف كيفية التعامل مع الجسم البشري.

*** وإذا كانت الكتابات التي وصلتنا عن الفراعنة تتكلم عن الرحمة والخير والنماء، فإن تحتمس الثالث كان له رأي آخر، ففي حملته على النوبة.. ورد في ما ذكرته البرديات أنه أمر بألف أسير أن يتركوا كتلا من الاجساد المشوهة في الخلاء، بعد أن قطع أطرافهم، حيث تناهشتهم الطيور الجارحة.

*** وتعذيب الإنسان لم تكن تحكمه نوازع الحكام وذوي السلطة، وإنما كان يخضع ايضا لعدد من أنواع العبادات التي كانت تسود في حقب مختلفة، عند مختلف الحضارات الإنسانية.

ففي الصين مثلا عبدوا المطر، والنهر الأصفر والبراكين، كما عبدوا الريح وأقاموا لها معبداً كبيراً تصول فيه وتجول!! فإذا ما جاء الامبراطور وأسرته ليقدم القرابين، كانت تفتح له مخارج من داخل المعبد، الذي صُمم بفتحات خاصة تجعل للريح أصواتاً.. وكلما كانت هذه الأصوات، الصادرة عن مرور الريح في الفتحات، شديدة كان تقديم القرابين أكثر.. وكانت القرابين عبارة عن شبان وفتيات في ميعة الصبا يذبحون في بهو المعبد!!.

أما إذا وصلت أصوات الرياح إلى درجة الصفير، فلا بد من تقديم قرابين هم عبارة عن أطفال لا تزيد أعمارهم عن السنتين!!. وكثيراً ما يقوم امبراطور أسرة (شانج) بذبح الأطفال بيده!!، فالريح كان هو الرعب المقيم في قلب كل صيني.

*** أما كهنة قرطاج، فكانت طلباتهم أشد ترويعاً من كهنة ريح الصينيين، فأرباب قرطاج لكي يعطوا خيراتهم المتمثلة بالمطر، لا بد أن يأخذوا الدماء.. دماء البشر.. والشواء!!.

فالاله (بعل) كان لا يتلذذ إلا بلحم الصغار من الذكور، ولا يرتوي إلا من دمائهم، أما الربة (شورا) فكانت أرق مزاجاً، ذواقة بكل ما في الكلمة من معنى.. كانت لا تشبع إلا بلحم البنات الصغيرات!!. وكانت الغيرة تدب بين (بعل) و(شورا)، رغم أنهما كانا يتزوجان مرة في كل عام على شاطئ البحر.. بعدها يفترقان.. ويغالي كل منهما في طلباته من عابديه.. ففي ليلة عرسهما يجمع الكهنة والكاهنات اعداداً مهولة من صغار الذكور والإناث، فيُذبحون على ضوء القمر وتستصفى دماؤهم في أوان من ذهب، فيشرب جميع الكهنة لتصل النشوة إلى ذروتها في نفوس الآلهة، ثم يبدأ الرقص على هسيس نار شواء الاجساد الطرية.

*** ثم جاء الرومان وكانوا، رغم وثنيتهم، من أوائل الشعوب التي استبدلت القرابين الحيوانية والنباتية بالمخلوقات البشرية، فتفننوا في أساليب تعذيب الإنسان بيد أخيه الإنسان، وتفننوا أيضاً باستنباط أدوات تعذيبية لم تكن لتخطر إلا على بال شياطين تخرجت من دهاليز جهنم لتصب معرفتها التدميرية في تدمير الإنسان. فأباطرة الرومان ارتكبوا مع المسيحيين من المجازر التي يعفّ الحيوان المفترس والمتوحش عن فعلها!!.. وعلى سبيل المثال: فالامبراطور (جايوس الأول)، حين علم أن زوجته اعتنقت المسيحية وعبدت رباً واحداً هو رب السموات والأرض، وكفرت بألوهية زوجها، ما كان منه إلا أن قام بذبحها بيده، ثم نادى على طباخه قائلا:

«أريد أن تقدم لي أشهى الأطباق على العشاء الليلة.. من جسد هذه المرأة.. أطباق الكبد والكلى.. سأقدمها هدية لأبنائي ليتعلموا منها كيف يكون مصير من يكفر بي ويخرج عن طاعتي!!».

*** أما نيرون فهو أول من استخدم الأسلوب النفسي للتعذيب. كان يجمع المسيحيين رجالاً ونساء وأطفالاً في (الكوليزيوم)، وقد احتشدت الجماهير تهتف له وتمجده بالأناشيد، وتوجه أقذع السباب للمسيحيين، ويقف نيرون وسط الملعب الكبير ويصيح في تمثيلية محبوكة الأطراف مع حراسه.. يصيح:

«اطلقوا الأسود..»!! وتصطك سلاسل الحيوانات المفترشة الجائعة، فيدخل صليلها الرعب في قلوب الضحايا من المؤمنين بدعوة السيد المسيح.. ويتوقعون الموت السريع.. إذ بعد لحظات ستنهش الأسود أجسادهم.. لكن نيرون يصيح ضاحكا: لا.. لا.. هذه الأسود ليست جائعة بالقدر الكافي.. أعيدوها إلى أوكارها.. ثم عودوا بأسود لم تذق طعاما منذ أسبوع كامل!!».

وتتكرر التمثيلية مرات.. ويتكرر معها العذاب النفسي للضحايا المؤمنين بعقيدتهم.. إلى أن يشبع نيرون نهمه الجنوني، متخذاً من الإنسان المؤمن وسيلة يتسلى بها هو وأفراد حاشيته.. وفي نهاية ذلك العذاب يصيح نيرون: «اطلقوا عليهم الأسود من كل جوانب الملعب».. وتنطلق الأسود الجائعة لتفتك ببشر قعيدين.. وسط قهقهات أناس ماتت مشاعرهم الإنسانية.

*** اكتافيوس ـ الذي أسموه في ما بعد أوغسطس الأكبر ـ كان أكبر سفاح عرفته الامبراطورية الرومانية.. ففي أواخر أيامه شكل لجنة خاصة تقوم بدراسة أساليب التعذيب التي مارسها الأقدمون في الحضارات السابقة على الحضارة الرومانية.

وخلصت اللجنة إلى أن: التعذيب يجب أن يكون مناسباً مع حجم الجريمة المرتكبة.

ـ ففي مصر الفرعونية: كانت العقوبة ذات صلة رمزية بالجريمة.. حيث كانوا يجدعون أنف المرأة الزانية حتى لا يقربها أحد، ويحرمون الزاني من رمز رجولته، ليعيش ما بقي له من عمر في ذل وحرمان ومهانة واحتقار.

ـ وفي أرض الحيتيين: كان من يعتدي على خلايا النحل، يسلخ جلده حياً، ثم يوضع أمام الخلايا التي حاول سرقتها، فتذيقه إبر النحل أبشع أنواع العذاب.

ـ وفي قرطاجنة القديمة: كان العبد الهارب، إذا ألقي عليه القبض، تقطع قدماه فلا يتمكن بعدها من الفرار أبداً! ـ وفي أرض آشور: كانت الخوازيق المدببة، هي وسيلة التعذيب المثلى، قبل أن يلفظ المتهم أنفاسه الأخيرة.

ـ أما اليهود: فقد كانوا يستخدمون الخنق المتكرر والبطيء، وكذلك تغطيس الإنسان في الماء إلى أن يلفظ أنفاسه!.

وقد علق الامبراطور (اكتافيوس) على ذلك التقرير قائلا: «ما أتفه هذه العذابات!! انهم لا يعرفون ما هو التعذيب الحقيقي».

ثم اصدر امراً يجري بمقتضاه تعذيب المحكوم عليهم بكل هذه الأساليب مجتمعة.

لكن الصلب في العراء هو عقوبة كل من يحاول الخروج عن طاعته.. فكل إنسان يخرج عن طاعة (اكتافيوس) يصلب فوق التلال المطلة على روما ليغدو طعاماً للعقبان التي تبدأ بقلع عينيه ثم تبقر بطنه، وتشق صدره، لتأكل قلبه.

وهذا ما حدث للمحرض على ثورة العبيد (سبارتاكوس)، إذ صلب بالعراء، هو والآلاف من الذين تبعوه.

*** وتفنن الأباطرة الرومان في التعذيب والقتل، كل حسب درجة جنونه، وتعطشه لمشاهدة البشر وهم يعانون سكرات الموت، جراء التعذيب!!. فالامبراطور (تيبريوس) مثلا، كان إذا غضب فجأة وهو في قصره المطل على أعلى قمة جبل في كابري، أمر بإلقاء من شاء حظه التعس أن يكون على مرمى بصره، حتى وإن كان من خاصة أصدقائه وقادة جيشه، أمر بإلقائه إلى البحيرة الراقدة تحته لكي يقضي على لحظات غضبه، وهو يتلذذ بصرخات ذلك المسكين الذي يهوي في نتوءات الجبل، فلا يصل إلى ماء البحيرة إلا وقد غدا كتلة مشوهة من الدم واللحم الممزق والعظم المهشم.

*** وكان أشد الأباطرة الرومان بطشاً وأمعنهم جنوناً، هو (كاليجولا) الذي تفتق ذهنه يوماً، فطلب أن يصنعوا له عجلاً من حديد!!. ولما تساءل أحد قادته عما هي الفوائد من صناعة ذلك العجل المجوف، فأجابه: «ألم يعبد اليهود عجلاً من ذهب له خوار؟! اصنعوا لي مائة عجل من حديد.. ولتكن بطون تلك العجول الحديدية فراغات تتسع لرجل أو رجلين..

وأنت يا (لاباديوس) ستكون أول من يعرف السبب في صناعة هذه العجول الحديدية.. لأنك أول من سألت!!».

ولما صنعت العجول الحديدية المجوفة، وقف أمامها (كاليجولا) مزهواً ثم نادى على (لاباديوس)، وقال له:

لقد سألت عن فائدة تلك العجول.. أليس كذلك؟! ـ أجل يا مولاي.. ويسعدني أن أعرف منك الجواب.. وإن كنت على ثقة من أن عظمتك لم تفكر في صنعها إلا من أجل هدف عظيم!!.

ستعرف حالاً.. أترى بطن هذا العجل يسعك يا (لاباديوس)؟ فأنت سمين وضخم؟!.

ـ بالطبع يا مولاي لقد نفذنا أوامركم بأن تكون بطون العجول فارغة وتتسع لرجل أو رجلين!.

إذن.. أرني كيف يسعك بطن هذا العجل؟

ويدخل (لاباديوس) في بطن العجل تنفيذاً لأمر (كاليجولا)، الذي ما أن اطمأن إلى وجوده في بطن العجل الحديدي، حتى صرخ بقهقهات محمومة، قائلا:

اغلقوا باب العجل الحديدي بالمزلاج والسلاسل، ثم ضعوا بين قوائم العجل مواقد الأخشاب المشتعلة.. ودعونا نسمع صرخات (لاباديوس)، لكي يعرف فائدة هذه العجول الحديدية!!. وصارت هذه العجول قبوراً نارية لكل من يحل به غضب الامبراطور (كاليجولا)، لدرجة أنه ادخل احدى بناته الصغيرات من زوجته (سيزونيا)، بعد أن شك في نسبتها إليه!.

أما زوجته الأولى (انطونيا)، فحين فاجأها بين ذراعي قائد حرسه، وضعهما معا في كيس جلدي، مع مجموعة عجيبة من الحيوان.. قرد، وكلب، وديك، وأفعى!! واحكموا ربط الكيس الذي وُضع أمام (كاليجولا)، حيث أخذ يتلذذ بالصراخ وحركات التشنج الرهيبة، في صراع هؤلاء جميعاً، وهذه الخلطة العجيبة داخل الكيس الجلدي. وبعد أن همدت الأجساد، لم تبق إلا حركة الأفعى المنتصرة!!.