الأسلحة العربية المضيّعة.. العراق نسرٌ تكسرت مخالبه

TT

استثار فضولي الحديث عن الأسلحة العربية المعطّلة والتي من المفترض أن تحشد لمواجهة جحافل ارييل شارون ومن يدعمه، والتي تعمل قتلاً وتدميراً في الشعب الفلسطيني، تحاصره في بيته ثم تهدمه على رأسه. ولا شك أن كل مواطن عربي يحس بشيء من الإهانة بدرجة أو أخرى، وهو يرى ستة ملايين يهودي، منهم نصف مليون مسلح تنظيمياً، يفرضون على مائتي مليون عربي ومليار مسلم، شروطهم، وما يسمى بالسلام.

هذا المواطن العربي، يتساءل عن سر هذا الضعف من جانب أمته، وهذه «القوة» من جانب اسرائيل، حتى لو وقفت أمريكا مالياً وعسكرياً إلى جانبها. ويزداد تساؤله إلحاحاً، عندما يشاهد أن ثمانية آلاف من جنود حزب الله مسلحين بأسلحة خفيفة لا تتعدى الرشاشات والقنابل وصواريخ الكاتيوشا استطاعوا أن يهزموا القوات الاسرائيلية ويحرروا الجنوب اللبناني دون أن يوقعوا اتفاقية، أو يقيموا صلحاً مهينا مع الدولة العبرية.

قلت استثار فضولي الموضوع، وها أنذا أعود إليه متسائلاً عن سر هذا الضعف وكأن الأمة معوقة فكرياً وجسدياً، وكأن الإمكانيات العربية وهم وسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء فإذا جاءه لم يجد شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه.

حديثنا اليوم عن العراق، أرض الرافدين، بلد به 22 مليون نسمة، هاجر ربعهم إلى أصقاع الدنيا، لاجئين إلى هذه الدولة الأوروبية أو تلك الدولة المجاورة. العراق العريق كان يوماً مهداً لحضارات غابرة، سادت ثم بادت، وكان يوماً من مدنه تدار الأمة الإسلامية من جاكرتا إلى طنجة، من الكوفة، يوم نقل الإمام علي رضي الله عنه عاصمة الخلافة إليها من المدينة، ومن بغداد التي بناها المنصور لتكون حاضرة الإمبراطورية الإسلامية، ومن البصرة سيطرت الدولة العثمانية على الجزيرة العربية وما خلفها.

العراق به مليون عسكري نظامي، بالاضافة لمئات الآلاف من الميليشيات المتعددة الأسماء، وفي باطنه ثروة نفطية هائلة، تمكنه ولمائة عام قادمة من تصدير ثلاثة إلى خمسة ملايينوعاصيل نفط يوميا، أي بمدخولات تزيد على 80 مليون دولار كل يوم، كما يتمتع بقدرات زراعية ضخمة هيأتها تربته الخصبة وأنهاره العريضة، لا سيما دجلة والفرات. وفي العراق (أو كان فيه) قاعدة صناعية متقدمة، وبنية تحتية (جسور، شوارع، موانئ، وغيرها) تضاهي نمور آسيا، ودول أوروبا الجنوبية، كاليونان والبرتغال واسبانيا. غير أن أهم ثروة لدى هذا البلد الكبير، هو الإنسان العراقي الذي يتميز بحس قومي مميز، وعقل خلاّق بارع، وشراسة قتالية مقطوعة الشبيه. غير أن هذا العراق مغيّب عن المعركة مع اسرائيل، ولا دور له في التوازن الاستراتيجي، بل ربما يلعب دوراً معاكساً وهو إضعاف الجانب العربي في توازنه مع الكيان الغاصب في فلسطين.

كيف حدث، ويحدث هذا؟ سؤال، الإجابة عنه من نوع السهل الممتنع، فالكل يعرف الإجابة، لا سيما من التاريخ الحديث منذ عام 1979، حتى الآن، والكل لا يعرف الإجابة. مع ذلك، لا بأس من الإشارة إلى بعض الحقائق، لعل المواطن العربي يسترجع في نوستالجيا حاكمة المجد الذي لم يتحقق، والنصر الذي لم يأت.

كان الجيش العراقي قبيل الحرب العراقية الإيرانية يمتلك 4000 دبابة و600 طائرة حربية منها 300 من النوع المتقدم مثل الميغ 25 وسوخوي 24، ويمتلك قوة صاروخية هائلة، وشبكة رادارات للدفاع الجوي تغطي البلاد من الموصل إلى البصرة. ودارت حرب ضروس، استمرت ثماني سنوات، وهي ثاني أطول حرب في القرن العشرين بعد الحرب الفيتنامية.

وأقل التقديرات تقول إن الحرب كلّفت البلدين نصف مليون قتيل ومليوني معوّق، واستنفدت أسلحة البلدين وخسرا بينهما ما يزيد على مائة مليار دولار. وكانت اسرائيل في تلك الأثناء، اما متفرجة تغمرها السعادة لدمار البلدين المسلمين، أو انها تصب الزيت على النار في اشاعات اعلامية وحركات سياسية بارعة، او انها استغلّت حالة الضعف المتناهي للجبهة المعادية لها، فغزت لبنان تارة، ومقرات منظمة التحرير الفلسطينية في تونس تارة اخرى، وتارة ثالثة هاجمت المفاعل النووي العراقي.

وما ان وضعت الحرب أوزارها، بعد أن أنهكت كلا البلدين، جيشاً وشعباً ودولة وخزينة، وأنهكتنا جميعاً معها، حتى بدت بوادر الأزمة الثانية والطامّة الكبرى، ووقع رئيس العراق الذي استهل عهده الميمون بالحرب الخليجية الأولى، وقع في شباك الألاعيب الدولية، وأثبت مرة أخرى أنه ليس بالرجل الاستراتيجي الذي يتوجب وجوده على رأس واحدة من أهم دول المنطقة.

وحتى قبيل الغزو العراقي للكويت، وبعد ثماني سنوات من الحرب الضروس، كان لدى العراق قوة هائلة تكفي لإعادة التوازن العسكري مع اسرائيل الذي أصيب بالخلل الفعلي اثر اتفاقيات كامب ديفيد. تقول الأرقام حول القوات العراقية في أغسطس (آب) 1990 ما يلي: مليون جندي و5500 دبابة ونفس العدد من المدافع الثقيلة، و700 طائرة مقاتلة من ضمنها F-1 الفرنسية وسوخوي 24 وحتى ميغ 29 المقاتلة المتعددة الأدوار. أضف إلى ذلك 300 منصة صاروخية مضادة للجو ضمن شبكة دفاعات واسعة تضم طائرات ومدافع مضادة ورادارات. كان العراق هو الوحيد في المنطقة الذي امتلك راداراً فرنسياً من شركة Thomson C5F الفرنسية، القادرة على الاشتباك مع طائرات «الشبح» الأمريكية. وإذا أضفنا قوة صواريخ أرض ـ أرض من طراز SCVD الروسية الصنع، يتضح لنا مدى الإمكانيات الكبيرة التي كانت تحت تصرف القيادة العراقية. والحال أن عدد من قتل من قوات الحلفاء على أيدي العراقيين لم يتعدّ 300 مجنّد وهو عدد يقل عمن قتل بطريق الخطأ من القوات الغربية في الصحراء.

المهم ان غزو الكويت، وعاصفة الصحراء التي وفرت الفرصة لأمريكا وحلفائها لإنهاء و«كسر» الجيش العراقي، أخرجت هذه الأسلحة من المعادلة الاستراتيجية مع إسرائيل.

اليوم تعتصر القلوب وهي تحصي نتائج تلك المغامرة التاريخية الخطيرة، فبالاضافة لما ألمّ بالشعب العراقي نتيجة الحصار الظالم الذي تفرضه الأمم المتحدة بقيادة واشنطن، وتخلّي العرب عن العراق خسر عرب الخليج أكثر من 100 مليار دولار، لو أنها استثمرت لصالح المنطقة لولّدت مائة مليار دولار أخرى.

اليوم نشاهد، هذا البلد العزيز، والشعب الكريم وهو يقبع في نفق مظلم، تكالب عليه الأعداء والاصدقاء وخذله أبناؤه وزعماؤه، نفق لا نرى نهاية له تحفظ كرامته وتعيده للصف العربي. من المنظور الجغرافي ـ السياسي، ضعفت الجبهة الشرقية مع اسرائيل، فلا العراق قادر على دعم سوريا ولبنان والفلسطينيين في وجه عدوان الصهاينة، ولا ايران قادرة على توفير عمق استراتيجي بدرجة فعالة لسوريا في وجه التحالف التركي ـ الاسرائيلي ـ الأمريكي، ولا دول الخليج قادرة على الخروج من مصيدة التاريخ والجغرافيا التي اوقعتها فيها حرب الخليج الثانية.

وهكذا تخرج أسلحة كثيرة ملحقة بالقوة العراقية المحاصرة من المعركة مع اسرائيل، والصهاينة يعرفون ذلك تماما، ولذلك تزداد جرأتهم وقاحة.