الحكمة قبل الإفتاء

TT

«الحكيم عيناه في رأسه» (حكمة توراتية) لا يكفي الإفتاء ان يكون المرء ملماً بالعلوم الشرعية، بل يستدعي أن يكون محيطاً بكافة القضايا المختلفة ومتابعاً لها، لذا فان معنى العلم المتداول في النصوص الشرعية لا يقتصر على علوم الفقه والأصول واللغة والحديث وغيره فهي علوم مستحدثة جاءت بعد النص الشرعي، إنما يتسع لاستيعاب كافة العلاقات والمعاملات في المجتمع والتي تشمل الجانب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والتربوي والبيئي وغيره، والفتوى ليست مجرد اصدار حكم قضائي ديني إذ انها في كثير من الأحيان تشكل تصوراً حول موضوع ما، أو تحدد موقفاً من قضية ما، أو تنشئ سلوكاً ضمن نظام مستحدث او جديد، والمتصدون لها يجب ان يتمتعوا بالحاسة المتميزة في تقدير الخطأ من الصواب، والحسن من القبيح وذلك بدرجة متناهية في الدقة، ولعلها هي التي أشار الها القرآن في كثير من آياته بالحكمة، إذ اقترنت بدرجة تلي الوحي في كثير من آيات القرآن، وجاءت في بعضها سابقة التوراة والانجيل، ولأنها ملكة في الفهم والادراك وتقدير الأمور قدمها القرآن على كافة مصادر المعرفة في مواضع الافتاء والقضاء، إذ قال «قد جئتكم بالحكمة لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه»، وقال في موضع آخر متحدثاً عن احد انبياء بني اسرائيل «وشددنا ملكه، وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب»، ومثلما وضعها بدرجة تالية للوحي فانه جعلها مصدر نجاح الملك «آتاه الملك والحكمة» ومصدر نجاح الدعوة «إدع الى سبيل ربك بالحكمة»، ولما كانت الحكمة حصيلة العقل والتجربة البشرية فان الحديث الشريف جعل النتاج البشري منذ بدء التاريخ منهلاً لاستقاء الحكمة، إذ قال «الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو احق بها»، هكذا يقول «حيث وجدها» أو أنى وجدها.

الاشارة الى ضرورة توافر الحكمة في مهمة الافتاء استدعتها تلك الفوضى والتخبطات التي شهدتها الفتوى في العصور الأخيرة، ولعل أبرزها اقحام الهواة أنفسهم في هذه المهمة او تصدي من لا يستحق لها، ولعل ذلك يذكرني بمرحلة السبعينات حيث بدأت الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة تغذي مجتمع الجزيرة بخريجيها، ولأنها كانت رائدة لفكر ابن تيمية رحمه الله لذا نشأت موجة متمردة لدى بعض من خريجيها على فتاوى القدماء، وانتهى الأمر بقلة منهم الى نزعة تكفير مخالفيهم فيما أطلق عليه بمسائل العقيدة، ولما كان مخالفو ابن تيمية في هذا الجانب هم من الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة والشيعة والأباضية، فان اولئك صاروا يوزعون فتاواهم بالتكفير والتضليل والزندقة على أصحاب هذه المذاهب، غير ان هذه النزعة الخطيرة من شأنها إلغاء التاريخ الاسلامي وتقليص أمة محمد صلى الله عليه وسلم في دائرة متناهية بالضيق، فكثير من اعلام الأمة على امتداد التاريخ قد لا يوافقون ابن تيمية فيما ذهب اليه في «مسائل العقيدة»، ومجرد ذكر اسماء ابطال كصلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح والظاهر بيبرس، او فقهاء كأبي حنيفة والعز بن عبد السلام وابن حزم والغزالي والنووي، او علماء كابن رشد وابن سينا والفارابي، ناهيك عن ملايين في المشرق والمغرب العربي من اتباع تلك المذاهب الكلامية، بمجرد ذكر هذه الحقائق ينكشف الجنون في مثل هذه النزعة، ولقد هالني في ذلك الوقت ان رأيت ان آثار ذلك امتدت الى شباب الحركة الاسلامية بالكويت، حتى سرت فتوى في مطلع الثمانينات بعدم جواز دعم المجاهدين في افغانستان بدعوى انهم أشاعرة وصوفيون، يومها كان لا بد من احداث صدمة تعيد الوعي وتهاجم هذه النزعة، ولقد تقدمت ضمن اولئك الذين تصدوا لهذه النزعة وألقيت محاضرة بالكويت تكشف خطورة هذا الاتجاه في التكفير، ولم يكن العنف في الردود والميل الى تكفيري مستغرباً عندي آنذاك، فلقد وضعت يدي في مخبأ الدبابير وكان لا بد من ذلك، وتبادلت شخصيات في السعودية والكويت ادانتي وتكفيري في الوقت الذي كنت رئيساً لتحرير «المجتمع» الاسلامية، لكنني لم أتراجع ومضيت في كشف مخاطر هذه النزعة التكفيرية وأثرها السياسي في الغاء الجهاد وتكريس الاحتلال الروسي، وفي تصعيد مني نقلت الأمر الى فضيلة الشيخ ابن باز الذي استنكر هذه النزعة وخطورتها، وأبدى ملاحظاته على جرأة البعض في الافتاء والتكفير دون التحلي بالحكمة عند الافتاء، ومعرفة الآثار المترتبة على كل فتوى خاصة اذا كانت متعلقة بالجهاد ضد العدو. وعندما أثار البعض خطورة غض الطرف عن الخلافات العقدية وأثرها على أصل الدين، أجاب الشيخ رحمه الله اننا نخطئ مخالفينا ونقول هذا غلط، ولا نقول فلانا كافرا.