مناخ المقاومة

TT

كلما ادلهمت واشتعلت وتأججت النيران، والنفوس، وقف الناس ليتساءلوا أين دور المثقف؟ وما هو تأثير الكلمة؟

وفي الواقع، فإن الكلام الحقيقي الصادر عن مشاعر نزيهة وعقل وضمير يقظين يكون قد فعل فعله في تلك اللحظة، فإحياء الرغبة في المقاومة والإمعان في تحدي الظلم، عملية طويلة ومعقدة وهادئة، فأكثر أنواع الكلام المكتوب والمحكي تأثيراً ذاك الذي يخرج من قلب حي ومفعم بالمشاعر ليصب في عقول وضمائر لم يلوثها وحل المرحلة.

ان المقاومة للظلم والتعسف والقهر السياسي سيمفونية عامة يكتبها الناس ويلحنها الشاعر والمغني، ثم يضيف إليها كل حسب قدرته وتأثيره لحناً مختلفاً يتوافق مع طبيعة حقبته التاريخية.

لقد كانت شعلة المقاومة الفلسطينية متأججة قبل أن يكبر وينبغ محمود درويش، الذي أعطاها زخماً جديداً يختلف عن اضافات الشاعر أبي سلمى دون أن يتناقض معها، فاللحن السيمفوني المقاوم مثل كل لحن عظيم مفتوح على الأفق الحر يقبل الاضافة والتعديل والحذف والتبديل، ويتيح لكل شاعر وأديب وفنان حقيقي أن يكون مسموع الصوت داخل اللحن العام بشرط ألا يكون نشازاً عن أغراض المرحلة ومنطقها وأولوياتها.

إن الأدب المقاوم الأول فيه الكثير من العنف والدم والتشفي، وذاك قدره وطبيعة مرحلته، أما مرحلة المقاومة الثانية، ورغم كل مآسيها، فقد انتجت نوعا من الغناء الإنساني العذب الصافي، الذي يجعل الجلاد نفسه يتأثر إذا صحا ضميره، لكنه نادراً ما يقدم على ذلك لأسباب معروفة.

ومن يقرأ ثوريات شاعر ضخم كالجواهري لا يستطيع إلا أن يلاحظ أن ذلك الشاعر الكبير ظل رغم عدم الشك في نزوعه الإنساني أسير منطق زمانه وثقافته، فهو ومع الإخلاص الضمني للحرية والتحرر، يدعو إلى تعليق المشانق، وسحق المعارضين، وصبغ الأنهار بالدم وهي من المعاني المقبولة على مضض في الصراع مع عدو خارجي، لكنها داخل خلافات الوطن الواحد لا تختلف عن منطق الحاكم ـ الجلاد، الذي لا يريد ان يسمع إلا الصوت الذي يطربه.

الشاعر التشيلاني نيرودا والشاعر التركي ناظم حكمت من طينة أخرى، ومع أن هؤلاء الثلاثة الجواهري ونيرودا وحكمت محسوبون على اليسار، فإن لغة الدم لا تبرز بفجاجة إلا عند شاعرنا العربي، في حين يظل نيرودا بالغ الأناقة في التعبير عن غضبه ويظل ناظم حكمت متماسكاً ومترفعاً لأنه يعرف أنك لا يمكن أن تنتصر على الجلاد بسلاحه الملوث والمدان.

في أوقات الأزمات نسمع تحريضاً كثيراً على العنف والدم ودور الشاعر والكاتب ان يضبطا الإيقاع ويذكرا من يستمع ويقرأ ان الاهداف النبيلة تتطلب سمواً إنسانياً مختلفاً، فالمقاتل من أجل الحرية ليس منتقماً ولا طالب ثأر، لكنه عاشق للحياة وحريص على تطهيرها من اعدائها لجعلها اكثر جمالاً وتألقاً لأجيال تأتي بعده.

وحين يسألونك عن دور الكلمة أثناء المعركة لا تنس أن تذكر السائل بأن الأرض لا تحاسب الفلاح حين لا ينزل المطر، فهي تعرف ان البذرة هناك اما متى تنمو وكيف.. فمسألة تتعلق بالظروف وخصوبة النفوس والمناخ العام، الذي يتأثر بالسوس الداخلي، والآفات الخارجية، فما من بذرة تنمو بالجهد الذاتي وحده، وكل من يريد للمقاومة الشريفة ان تنتصر عليه ان يتذكر انه جزء من المناخ العام، وبإمكانه ان يساهم في إخصاب جميع البذور بدلا من التآمر بالصمت المريب لوأدها في مهدها.