صدام: «استعماله» من جانب الأميركيين «يؤخر» إعدامه

TT

هل من أحد كان يعتقد أن حكماً بالبراءة سيصدر على صدام حسين؟ لم يكن الحكم بالاعدام شنقاً بمستغرب، بل المستغرب كان تعبير الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش عن «سروره» لدى سماعه تفاصيل الحكم الذي اعتبره نجاحاً للشعب العراقي، في احلال حكم القانون محل نظام الطاغية.

ان توقيت صدور الحكم، بنظر الجميع كان سياسياً، وربما جاء من أبلغ الرئيس الأميركي ان القصة لا تستحق المطولات، فاكتفى بعبارات قصيرة تعبر عن فرحه وشكر «القوات الأميركية في العراق» التي ساهمت في ارساء العراق على طريق المحاكم والديموقراطية!

يمكن أن تنصب المشانق وتتدلى حبالها، ويُعدم صدام ورفاقه، لكن هذا لن يجعل العراق مكاناً يمكن العيش فيه بأمان وديموقراطية. فمستقبل ذلك البلد غامض بعد صدور الحكم، كما كان قبله.

عندما اعتقل صدام حسين، ويومها كان يجب ان يُطلق النار على نفسه، وعبارة «نحن اهلها» التي نطقها اثناء تلاوة الحكم، كان يمكن ان يطبقها بالفعل، قبل ان يُلقى القبض عليه، فهي تنطبق على الحياة كما على الموت.

على كل، عندما اعتقل، ساد اعتقاد بأنه سيحكم عليه بالإعدام، انما بعد محاكمة عادلة، وكان الاعتقاد انه سيُحاكم في محكمة دولية، لكن الأميركيين ربما اعتقدوا ان العدالة بحق شخص ظالم تفقد معناها، ولا تكون عادلة.

قبل ان يدخل الى قفص المحكمة ليصدر عليه الحكم بالإعدام، ذُكر ان صدام حسين قال لمحاميه: «ستجري أنهار من الدماء، وسوف تبدو فيتنام ذكرى بعيدة».

قبل ان ينفذ حكم الاعدام بصدام، طال الوقت او قصر ـ كشف لي مصدر أميركي انه منذ حوالي الشهر، طلب الأميركيون من صدام حسين، اصدار بيان يدعو فيه المقاومة السنية إلى الهدوء، واللقاء مع الأميركيين في عمان، وبعد صدور الحكم عليه، ذكرت مصادر غربية ان الاستئناف سيطول، كي يوفر صدام حسين للأميركيين فرصة لـ«استعماله» في تهدئة المقاومة، وايجاد مخرج لسحب القوات. اذن، عندما سيُعدم يكون الاكراد والشيعة انتقموا للظلم الذي لحق بهم خلال فترة حكمه المظلم. اما السنّة فإنهم سيزدادون مرارة عما هم عليه اليوم، وسيجدون في فعل الاعدام، اذلالاً لهم كطائفة، ومن المحتمل ان تزداد كراهيتهم للاكراد والشيعة، واكثر للأميركيين المحتلين. ومن المؤكد ان مقاومتهم ستزداد، لكن اعدام صدام حسين لن يوقف الصراع الداخلي الذي يمزق العراق كمجتمع وكيان سياسي، ذلك ان بقاءه على قيد الحياة بعد إطاحته، ربما أبقى الأمل للسنّة بأنه قد يعود يوماً ليوقف النزف، ويعيد اليهم بريقاً انطفأ. لكن العراق، بالإبقاء على صدام حسين او اعدامه، تحول الى ساحة يواجه فيها الأميركيون الاسلاميين، والجهاديين، والعروبيين وحتى الشيعة، وستكون لساحة الصراع هذه انعكاسات على منطقة الشرق الأوسط وعلى الولايات المتحدة نفسها.

إذا أُجبرت الولايات المتحدة على الانسحاب من العراق، فإن الأذى الذي سيلحق بسمعتها كقوة عظمى، لا يمكن اصلاحه، فهو سيدفع الى انسحابها ايضاً من افغانستان، حيث تتزايد المعارك بين القوات الدولية ومسلحي «القاعدة» و«طالبان». ثم ان افغانستان الآن، حسبما سربت وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية الى صحيفة «نيويورك تايمز» يوم السبت الماضي، يتعرض رئيسها حامد كرزاي للعزلة، بسبب حنق الأفغان من ضعف الحكومة المدعومة اميركياً.

ويبقى العراق بالنسبة الى الولايات المتحدة، الرمز الذي اراد المحافظون الجدد، فرض السيطرة الاميركية على العالم عبر احتلاله. لكن عتاة هؤلاء بدأوا يغسلون ايديهم من تلك المسؤولية او من تهمة انهم كانوا وراء قتل قصي وعدي ابناء صدام حسين وإطاحة النظام.

في مقابلات مع مجلة «فانيتي فير» الأميركية، تنصل ريتشارد بيرل، واليوت كوهن، ودايفيد فروم، ومايكل ليدين وآخرون من مسؤولية تدمير العراق، كانوا يرغبون في التدمير والتدجين، الا انهم عجزوا عن عملية التدجين وبقي التدمير الذي قد يزعزع سيطرة الامبراطورية الاميركية.

ريتشارد بيرل وضع اللوم كله على الادارة الاميركية العاجزة. ورأى، ان القرارات التي كان يجب اتخاذها لم تتخذ، وعندما اتخذت لم تراع عنصر التوقيت: «في النهاية ان الرئيس يتحمل المسؤولية، لا اعتقد انه ادرك حجم المعارضة وعدم الولاء في ادارته».

من جهتهم ومن منطلق آخر، ادان اربعة جنرالات اميركيون سياسة ادارة بوش وطالبوا بإقالة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد. وكان مسؤول اميركي في وزارة الدفاع قال لي مرة: «ان العسكر الاميركيون لا يحبون الحرب، وهم يفضلون الرواتب والمرتبة». قد يكون هذا المسؤول غيّر رأيه بعد الحربين في افغانستان والعراق، خصوصاً في العراق، حيث يتفق أغلبية الاميركيين على ان قواتهم في العراق تواجه ظروفاً مشابهة لتلك التي واجهت آباءهم في فيتنام. الآن، قد يُعدم صدام حسين خلال 30 يوماً، بعد المداولة في الاستئناف، وقد يحدث هذا قبل نهاية العام كما قال مسؤولون عراقيون، لكن المقاومة السنيّة والشعبية في العراق لم تعد من أجل صدام، او من اجل اعادة الحكم السنّي. هذه المقاومة في مواجهة معادلة تقسيم العراق الى مناطق فيديرالية التي تخيم بظلها، تريد ان تؤجل تنفيذ هذا التطبيق قدر المستطاع. وعكس الاكراد والشيعة، لا يتمتع السنّة بأرض غنية بالنفط، لذلك اعتمدوا على نشر المتفجرات، ليكسبوا كرسياً لهم على طاولة المفاوضات السياسية، وهم في الوقت نفسه يجدون صعوبة في السيطرة على مجموعات «القاعدة» والجهاديين الذين صاروا في العراق، ويستغلون الفوضى والقضية السنّية معاً. بدورها تواجه القوات الاميركية معارك مع هذه العناصر ومتفجراتها منذ ثلاث سنوات. ولا يبدو انه يمكن السيطرة على العنف المتأجج بالأسلحة المتفوقة والغارات الجوية، واذا كان لهذه القوات ان تنسحب، فذلك سيكون حسب اعتقاد البعض، عبر اتصالات ديبلوماسية مع طهران. لذلك جاء تصريح الناطق باسم الخارجية الايرانية محمد علي حسيني يوم الأحد الماضي، «ان طهران على استعداد لدراسة اي طلب رسمي من واشنطن لإجراء مفاوضات حول القضايا الاقليمية». وكان الرئيس الايراني السابق محمد خاتمي قال الاسبوع الماضي، في محاضرة القاها في «تشاتهام هاوس» في لندن: «ان الطريق معبدة لمحادثات مباشرة ما بين ايران والولايات المتحدة حول الوضع في العراق». وتجدر الملاحظة هنا الى ان المسؤولين الاميركيين لا يرون أي دور فعال لخاتمي في ايران اليوم.

هذه التصريحات جاءت وإيران مستمرة في المناورة على ضرورة، ان يعترف العالم بحقها في مواصلة برنامجها النووي، وبعد تحريكها «حزب الله» في لبنان ودفعه الى حرب مع اسرائيل دمرت الاقتصاد اللبناني، وبعد أن حثت على نشر القتل الطائفي في العراق. ولم تكن مجرد صدفة انه في شهر تشرين الأول (اكتوبر) والأسبوع الأول من الشهر الجاري، سقط عدد كبير من الجنود الأميركيين، فمع اقتراب انتخابات الكونغرس اراد الايرانيون ان ينقلوا الى الاميركيين بأن ادارتهم عاجزة في المنطقة، وعليها بالتالي ان تلتفت الى القيادة الايرانية، اذا ما ارادت حلاً سياسياً في العراق. ودعمت طهران هذه الرسالة بمناورات عسكرية ضخمة (الثالثة هذا العام) لتظهر ان الخيار العسكري، اذا ارادته واشنطن، سيكون ثمنه باهظاً.

ما كانت ايران تحلم بأفضل من هكذا تطورات. صدور الحكم على صدام حسين لم يحقق اي خرق للجمهوريين على الديموقراطيين في الانتخابات، فالمواطن الاميركي صار يرفض استغباءه من رئيس لم يُعرف عنه ان الذكاء صفة من صفاته. ايران نجحت في مراهنتها على ان تأثير الحرب في العراق سيصل الى الرأي العام الاميركي، ثم إن هناك حواراً متصاعداً دائراً بين قدماء صناع القرار الاميركيين حول ضرورة «جرّ» سوريا وإيران لحل المشكلة، لكن كل هذا لا يعني ان الحل آت ولا مناص.

إن لعبة التنس الدائرة بين واشنطن وطهران صارت معروفة. الايرانيون يريدون التفاوض مع الاميركيين حول العراق من دون اي ربط بقضايا اخرى، والاميركيون يريدون ان تكون كل المفاوضات مع الايرانيين مرتبطة ببرنامجهم النووي.

لقد حُسم مصير صدام حسين عندما اعتقل، وقد يكون هذا السبب الذي دفعه الى الاستمرار طوال جلسات محاكمته الى تحدي سجانيه والحكومة العراقية. وهو الآن يريد ان تبقى صورته لدى الشعوب العربية والمسلمة ليست كديكتاتور طغى وتجبر وقتل ومشى، بل كوطني وكشهيد في نظر سنّة العراق. لكن مصير العراق لم يُحسم لأحد بعد، وبالذات ليس لإيران.

من المستبعد ان توافق ادارة بوش على مفاوضات مع طهران من موقع ضعف. واذا ما فاز الديموقراطيون فإن لديهم الكثير من القضايا المحلية العالقة التي سينكّبون على معالجتها، قبل أن يفرضوا على البيت الأبيض استراتيجية جديدة تتعلق بالعراق. ثم إن «النوم مع العدو» لن ينفع الديموقراطيين في معركة الرئاسة عام 2008. وحسب ما قال لي مصدر تركي: «إن الخيار الأفضل والوحيد كي تحافظ الولايات المتحدة على وحدة العراق كدولة مستقلة وذات سيادة، هو في ان تسلم مسؤوليات آمنة الى قوات عربية وإسلامية انما بتفويض من الامم المتحدة». بكلام آخر، ان مستقبل العراق يجب أن يوضع تحت شرعية مظلة الأمم المتحدة، بوجود قوات اسلامية مما يبعد اطماع جيرانه به، ويخفف من غلواء طوائفه، ويسد طرقه أمام فلول «القاعدة» والجهاديين.