الديمقراطية أو الاستقرار؟

TT

قد نصدق الشارع اليمني الذي طالب الرئيس على عبد الله صالح بالبقاء في السلطة، لا انسياقا وراء الدعاية الرسمية التي اعتبرته الرمز المقدس الذي لا سبيل لتعويضه، والحاكم المحبوب الذي لا محيد عنه، وإنما انطلاقا من حقيقة راسخة نلمسها عمليا في الساحة العربية، وهي خوف الناس من المجهول في غياب بنية مؤسسية ناجعة، تحمي البلاد من الفتنة وعدم الاستقرار.

حدث الأمر في مصر عام 1967 عندما اعتزل الرئيس عبد الناصر بعد هزيمته الشنيعة في الحرب مع إسرائيل، فخرجت الجموع الحاشدة تطالبه بالبقاء في الحكم... ولم تكن تلك المسيرات مفتعلة أو مرتبة كما قيل، ولا هي تعلق تلقائي بزعيم الأمة كما ذكرت الدعاية الرسمية، وإنما هي تعبير عن الهاجس نفسه، أي انسداد آفاق التغيير والتباس سبله والخشية من صدمته الفظيعة وضبابية التحول. وعند رحيل الزعيم، كتب الصحافي الفرنسي المعروف جان لاكويتر، معلقا على تشييع جنازة عبد الناصر الذي حضرته جموع غفيرة من الناس «لم يسجل في التاريخ أن احتشد الناس بهذه الطريقة لتشييع قائد مهزوم... من المثير جدا أن يبكي الناس بهذه الحرقة والألم رجلا قادهم قبل ثلاث سنوات إلى الهزيمة... في الغرب ينتحر القادة المهزومون وفي الشرق يودعون بالورود والدموع».

ولم يكن الرجل يدري أن تشبث المصريين بعبد الناصر هو تمسك يائس بأحلام وتطلعات رمز إليها هذا الزعيم، حتى ولو كان أخفق في تحقيقها.

من مؤشرات الظاهرة نفسها سهولة تحكم الرؤساء القائمين على الأمر في المسارات الانتخابية ونجاحهم الهين في تجديد الثقة لأنفسهم عبر الاقتراع الشعبي العام.

 ومن نافلة القول إن هذه الانتخابات تفتقر عادة للصدقية، ولا تتوفر فيها معايير الشفافية والنزاهة، بيد أن الظاهرة في ذاتها (سهولة الحكم في توجيه خيارات الناس ولو بالإغراء والإكراه) تدل بجلاء على نمط من التواطؤ الضمني بين الحاكم والمحكومين في تأمين حالة الاستقرار القائمة.

وقد تساءل أحد علماء الاجتماع العرب مرة إذا كان المجتمع العربي يتطلب موضوعيا الديمقراطية أم الاستبداد، ملمحا إلى أن الطلب على الاستبداد قد يكون غالبا على الطلب على الحريات العامة في الشارع العربي. ولا تعني هذه المقولة أن المجتمع العربي بحاجة إلى الأحادية والديكتاتورية، بل إنه لم يستطع فرز ديناميكية انفتاح وتحرر، تتمحور حول قوى تغيير ناجعة وفاعلة.

فمن المعروف تاريخيا أن هذه القوى، قد تشكلت في عصر الثورات السياسية الأوروبية من تشابك الطبقة البرجوازية الصاعدة والنخبة المثقفة التي بلورت ونشرت أفكار التنوير والتحديث.

وفي بلدان أوروبا الجنوبية التي عرفت تحولا ديمقراطيا ناجحا في السبعينيات، اضطلعت المؤسسة العسكرية بدور الحاضن لعملية التحول بعد نهاية الدكتاتوريات العسكرية التي كبحت الانتقال الطبيعي نحو الديمقراطية التعددية، في حين ساهمت ديناميكية الاندماج الأوروبي في تجذير هذا الخيار.

وفي نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، أدت النقابات العمالية وحركة المثقفين المنشقين طليعة قوى التغيير الديمقراطي في أوروبا الشرعية، بعد عقود من الأحادية الاشتراكية.

ومن الواضح أن هذا المشهد لم يتحقق في العالم العربي، حيث يتمحور الحراك الآيديولوجي ـ السياسي على إشكاليات الهوية في أبعادها ودوائرها المتنوعة والمتباينة إلى حد أن المفكر اللبناني المرموق غسان سلامة، قد تساءل مع آخرين في كتاب هام نشروه حول واقع وتحديات الديمقراطية في بداية التسعينات، كيف يستقيم الحديث عن الديمقراطية في العالم العربي بدون وجود ديمقراطيين.

لقد أدى هذا الوضع الاستثنائي إلى تمسك الناس بالحال القائم، وإلى تشبثهم بمطلب الاستقرار بعد أن عز مطلب التغيير الديمقراطي السلمي الناجع.

فالجموع الغفيرة التي احتشدت خلف عباس مدني وعلي بلحاج في الجزائر، في بداية التسعينات، عادت لتحتشد خلف الرئيس الحالي بوتفليقة أملا في إخراج البلاد من حالة الفتنة والاحتقان.

ولعل المشهد يتكرر مستقبلا في منطقة الحكم الذاتي الفلسطيني، بعد أن أفضت المعادلة الديمقراطية إلى مأزق متفاقم، سد ـ في ظل الحرب العدوانية الإسرائيلية ـ كل آفاق ومنافذ الحل السياسي الداخلي.

وبرصد المؤشرات الإيجابية المحدودة للتحول الديمقراطي في العالم العربي، يمكننا أن نستكشف آليتين  متمايزتين عليهما التعويل في تحقيق النقلة المنشودة من الأحادية إلى التعددية.

أما أولى الآليتين، فتتمثل في الخطوات الإصلاحية المتنامية التي أقدمت عليها بعض الأنظمة الملكية الوراثية لتوسيع المشاركة السياسية، وفتح أطر للحوار والتعبير من منطق قدرة هذه الأنظمة على امتصاص صدمة التحول باعتبار أن موضوع شرعية الحكم محسوم فيها مسبقا، على عكس الأنظمة الجمهورية.

أما الآلية الثانية، فتتصل بدور المؤسسة العسكرية (التي هي القوة المتحكمة في دائرة الحكم والقرار في كل الجمهوريات العربية) في تحقيق النقلة المنشودة. ولعل المثال الموريتاني الحالي يكون مؤشرا دالا على هذا التحول، بعد مرور عشرين سنة على تجربة الجنرال سوار الذهب في السودان.