السودان: يواجه العالم.. أم يراجع مواقفه؟

TT

يبدو أن الرئيس السوداني على وشك ان يفقد آخر معاقل المساندة التي يتلقاها السودان للتوسط بينه وبين الأمم المتحدة في مسألة قبول القوات الدولية اذا كان البعض يتوقع استجابته لمبادرة حكماء افريقيا.. لكنه اعلن رفضها في لقائه معهم منذ ايام خلال المنتدى الصيني ـ الافريقي الذي عُقد في بكين مؤخراً.

لقد ادلى البشير بتصريحات تفيد انه لن يقبل بوعود لحوافز لقاء قبوله بالقوات الدولية، وذلك لعدم ثقته في الوعود الدولية التي بُذلت عند توقيع اتفاق سلام الجنوب، وتكررت قبيل توقيع اتفاق سلام دارفور، وكانت النتيجة عكسية تماما، فقد كانت العقوبات هي نصيب الحكومة باصدار قرار مجلس الامن 1706، والعقوبة الثانية كانت من الولايات المتحدة بالتوقيع على قانون سلام دارفور.

وخلص البشير الى التأكيد بأن السودان لن يقبل قوات حفظ سلام من الامم المتحدة لاقليم دارفور لانه ينطوي على مخاطر تحويل البلاد الى عراق ثانٍ، وان اثر ذلك يرقى الى حد الاستعمار، وقال: نحن نقدر التأييد الذي قدمته الصين لنا في مجلس الامن والاصرار على ضرورة السعي الى موافقة السودان على اي قرار يمكن ان يصدر.

لا شك ان رفض البشير لمبادرة حكماء افريقيا وهم: الرئيس الكونغولي دينس سانيسغوا رئيس الدورة الحالية للاتحاد الافريقي، والرئيس النيجيري أوباسنجو، والسنغالي عبد الله واد، والغابوني عمر بونغوا يعني ان السودان سيواجه موقفا عصيبا في الثالث والعشرين من هذا الشهر عندما تجتمع القمة الافريقية لتنظر في تطورات الوضع في دارفور بحكم التفويض الذي مُدد للقوات الافريقية والذي ينتهي اجله نهاية الشهر القادم. وهي قمة لا محالة ستقرر احالة مسؤولية القوات للامم المتحدة تمشيا مع توصية سابقة من جانب مجلس السلم والامن الافريقي، فضلا عن رفض البشير لمبادرة حكماء القارة التي تصب في ذات الاتجاه، وفيها تقديم حوافز للسودان بضمانات وجدت صدودا منه لعدم ثقته في الوفاء بتلك الحوافز!

ولعل اول ما سيترتب على ذلك هو ان يجد السودان نفسه في مواجهات لا قبل له بها. اولها مواجهة مع الاتحاد الافريقي الذي سيدعو الامم المتحدة الى تولي المسؤولية، وفي ذات الوقت لن يستطيع اخراج القوات الافريقية من الناحية العملية من اقليم دارفور وفوق ذلك سيواجه العقوبات الدولية التي على الارجح انها ستتزامن مع تفويض القمة الافريقية للامم المتحدة.

وليس صدفة ان يتزامن انعقاد القمة الافريقية في الثالث والعشرين من هذا الشهر مع الموعد الذي حدده توني بلير في تحذيره للنائب الاول للرئيس السوداني عندما التقاه في لندن بأن فرصة قبول السودان بالقوات الدولية لن تتجاوز ذلك التاريخ ما يعني ان الحصار سيطبق على السودان من كل الجهات ما لم يتدارك النظام بسرعة، المخاطر التي ستواجه السودان نتيجة لتحديه العالم والعزلة التي سيقع فيها.

ويخطئ البشير اذا تصور ان الصين ستقف بجانبه وتستخدم حق الفيتو، فهي لم تستخدمه عندما صدر القرار 1706، وهو قد شكرها على مجرد الامتناع عن التصويت وتأكيدها لاحقا على ضرورة موافقة الحكومة، لكن لا بد من قراءة تصريح الرئيس الصيني بدقة إذ قال: الصين تتفهم تماما قلق السودان في شأن هذه القضية وتأمل في ان يعزز السودان الحوار مع الجميع.. ومعنى هذه العبارة انه اذا لم يعزز النظام الحوار مع الجميع يلزمه ان يتحمل عبء عدم تعزيزه، وهذا المقصود منه بالدرجة الاولى الاتحاد الافريقي بداية، وقياسا بهذا المفهوم فليس من المنطقي ان يتصور البشير او نظامه ان الصين سوف تؤازره على حساب الاتحاد الافريقي بينما هي بالاساس وعبر منتدى بكين تسعى لكسب القارة بأسرها، وحتى على المستوى العالمي فان المصالح الصينية مع الولايات المتحدة لا تقاس بأي حال مع مصالحها في القارة كلها، ناهيك عن السودان!

ولا ريب ان اكثر الاخطاء فداحة هي ان تصر الحكومة في عنادها في مواجهة الامم المتحدة بحسبانها تسعى لاستعمار السودان فهي لم تستعمر قبله بلدا لأن المنطق يرفض قبول مثل هذا الزعم، مثلما يرفض ترديد ان حال القوات الاممية في دارفور سيكون مماثلا لحال قوات التحالف في العراق. فالعراق دولة احتلتها الولايات المتحدة وبريطانيا دون موافقة المنظمة الدولية، بينما القوات الاممية هي اصلا موجودة في السودان نتيجة لاتفاق سلام جبال النوبة، وسلام الجنوب ودورها سيكون في دارفور للحفاظ على السلام ايضا وهي قوات اقترح على الحكومة ان تكون من دول عربية واسلامية وافريقية، ويمكن ان تسعى الحكومة لتعزيز كل الضمانات المطلوبة، وفوق ذلك فهي مطلوبة من كل منظمات اهل الغرب ومؤيدة من الشريك الاساسي في الحكم ومرحب بها من غالب قوى المعارضة السياسية، وعلى المؤتمر الوطني الذي يتزعمه البشير ان يراعي كل هذه الاعتبارات بما فيها ان جزءا مقدرا منه لا يرى ما يراه من استعمار في هذه القوات، بل يرى ضرورة كسب المنظمة الدولية لأن في هذا الكسب ما يساعد السودان، وان القوات الافريقية الموجودة في دارفور هي ايضا قوات اجنبية!

وبالرغم من كل هذه الحيثيات فإن ما ورد منقولا عن الرئيس في لقائه مع حكماء افريقيا في الصين هو انه تلقى وعودا بحوافز من قبل مرتين، احداهما عندما وقع السودان اتفاق الجنوب والاخرى قبيل توقيع اتفاق سلام دارفور، وعوضا عن ان يكافأ عوقب ولهذا فهو يرفض الاستجابة لوعود اخرى لعدم الثقة، لكن عدم الثقة في انجاز الوعود المتعلقة بالحوافز شيء ورفض القوات من مبدأ رفض الاستعمار شيء آخر، هذا التناقض معطوفا مع جميع التناقضات الاخرى حول القوات الاممية هو ما يحير العالم ومعه غالبية اهل السودان.

ويكفي ان السودان قد اهدر نصف عام في هذا التخبط الذي اضر بمكانته في العالم وعطل الى حد كبير الكثير من تدفقات المساعدات التي وعد بها لمجرد ان الرئيس في لحظة ما وسط لقاء جماهيري اقسم بالله ثلاثا انه لن يسمح بالقوات الدولية، وبعدها اختصرت الدولة بكل مؤسساتها في شخص الرئيس ورؤيته الفردية للوضع، وعلى السودان ان يواجه العالم او يراجع الرئيس مواقفه حفاظا على السودان من مواجهة المجتمع، وعسى ان يفعل.