ملتقى النكايات: «المصري ـ الروسي» و«السوداني ـ الصيني»

TT

في يوم واحد، حدثت مصادفة لافتة، وهي أن رئيسي وادي النيل بفرعيه المصري والسوداني، توجّها مدفوعين بمشاعر النكاية، بالصديق الأميركي، كل بطائرته الخاصة، ومعه أعضاء الوفد المرافق الى عاصمتي الدولتين، المؤمل منهما كبح جماح التلاعب الأميركي ببلديهما، مع ان الرئيسين، وهما حسني مبارك وعمر البشير، يريدان وبكل الحرص السياسي بناء أفضل العلاقة مع المتلاعب الاميركي. الرئيس مبارك توجَّه الى موسكو يوم الاربعاء 1 ـ 11 ـ 2006 في زيارة تستغرق ثلاثة ايام، هي الثالثة له في فترة ولايته الرئاسية المديدة، بعد الزيارة الأولى عام 2001، والثانية عام 2004، رد عليهما الرئيس فلاديمير بوتين بزيارة مصر عام 2005، نافخاً بذلك بعض الاوكسجين، في روح العلاقة بين بلدين وضعا في الزمن الغابر حجر الأساس لحالة غير مسبوقة في العلاقات الدولية، استطاع الكرملين الماركسي ـ اللينيني ـ الخروشوفي، بفضلها ان يغسل متى اراد اقدامه المتجمدة في مياه البحرين الأحمر والأبيض المتوسط الدافئة. ثم جاء الرئيس انور السادات، يضرب القوة العظمى السوفياتية ويصيب منها مقتلاً معنوياً، ثم طرداً عملياً خارج المنطقة في زمن آخر القياصرة البلشفيك ليونيد بريجنيف. وكانت تلك صفعة على الرأس السوفياتي الأحمر، اصابته بدوار ما لبث ان ترنَّح بعده لتبدأ مرحلة التساقط.

في اليوم نفسه الاربعاء 1 ـ 11 ـ 2006 كان الطرف الآخر من الوادي، متمثلاً بالرئيس السوداني عمر حسن البشير، المثقل بخيبة الأمل من ادارة الرئيس بوش صديقة السودان الانتقالي، كما هو المفتَرَض حدوثه يتوجه الى بكين، في زيارة تستغرق ستة ايام، متأبطاً ملف قضية دارفور التي غدت شوكة في الخاصرة «الانقاذية»، تُوجع وتُدمي وتُتيح المجال أمام حالات مضافة من التأزم في العلاقة السودانية مع المجتمع الدولي، من النوع الذي حدث مع الأمم المتحدة عندما قرر الرئيس البشير يوم الاحد 22 ـ 10 ـ 2006 في لحظة انزعاج من سلوك المبعوث الدولي الى السودان الهولندي يان برونك طرده من البلاد، بعدما ذهب هذا الأخير أبعد بكثير مما هو ضمن واجبه كممثل للأمين العام، وذلك عندما نشر على موقع خاص به على «الانترنت» معلومات مفادها بأن حكومة السودان لا تنفِّذ اتفاق السلام الخاص بدارفور، وأن متمردي دارفور هزموا الجيش السوداني في معركتين كبيرتين خلال شهري أغسطس وسبتمبر 2006، كما أن الحكومة أقالت جنرالات، وأن معنويات الجيش النظامي منهارة، والجنود يرفضون القتال في دارفور.

وبصرف النظر عن صحة هذه المعلومات أو عدم صحتها، فإن المبعوث الدولي كان من حقه ارسالها ضمن تقرير سري الى رئيسه كوفي انان، انما ليس ترويجها بواسطة «الانترنت»، وبحيث بات في استطاعة اي كان الدخول على الموقع الـ«برونكي» والاطلاع على ما ينشره صاحبه عليه.

من هنا جاء الانزعاج البشيري في محله، وجاء رداً بصيغة التعميم.. أي بما معناه ان الرئيس لم يطلب من الخارجية ان تحتج لدى الأمين العام كوفي انان على سلوك مبعوثه، وتبلغه بضرورة تغيير هذا «المبعوث المتجني»، وإنما قرر اعتماد صيغة الإشهار حيث اصدرت الخارجية بياناً، يطلب من برونك مغادرة الأراضي السودانية في غضون 72 ساعة. وهو ما حدث بالفعل للمبعوث الدولي البالغ 66 من العمر، والمصنَّف في نظر البشير، انه مثل المنظمة الدولية العامل معها، ومثل الأمين العام لهذه المنظمة كوفي انان عبارة عن أجرام تدور في الفلك الأميركي.

في الصين وجد البشير ترحيباً مماثلاً للترحيب الذي وجده مبارك في موسكو. فقد تفهَّم الزعماء الصينيون انزعاجه من السلوك الأميركي ـ البريطاني، ومعه سلوك الأمم المتحدة ازاء قضية دارفور. ووجد هؤلاء في اطلالة الرئيس السوداني عليهم في هذه المرحلة، نوعاً من المساندة لطموحهم النفطي والاقتصادي والاستثماري في السودان، واستحضروا لهذه المناسبة محطتين بالغتي الأهمية في موقف السودان من الصين، تتمثلان بحُكم جنرالين سابقين: حُكْم الجنرال عبود عندما قاد لدى الدول الافريقية حملة الاعتراف بالصين في الخمسينات، وحُكْم الجنرال جعفر نميري الذي وضع في زيارته الى الصين عام 1985 ـ وكانت آخر زيارة رسمية له قبل إسقاطه ـ الحجر الاساس لعلاقة راسخة الجذور مع الصين، تقوم على ارضية النكاية بالاتحاد السوفياتي الذي وقف مع جماعة «يوليو» ضد جماعة «مايو»، اي مع الشيوعيين الذين حاولوا قلب حكم نميري. وتلك رواية طويلة متعددة الفصول. ويومها اي في عهد الجنرال الاول ثم الجنرال الثاني، لم يكن السودان دخل النادي النفطي، وكان ما زال يوهَب البراميل التي بالكاد تفي الاستهلاك المحلي من اصدقاء السودان ومحبيه والحادبين عليه.. وبالذات من المملكة العربية السعودية. اما الآن فإن السودان هو ارض الطفرة النفطية الثانية في العصر الحديث، وساحة الصراع الاميركي ـ الصيني، وليس مأمولاً فوز الصين بهذا الصراع على رغم الارتياح الشعبي السوداني من سياستها وعدم تدخُّلها في الشؤون الداخلية، وذلك لأن نصف السودان الانتقالي اي الفريق الجنوبي مع اميركا وبريطانيا من دون تحفُّظ، ولأن النصف الإنقاذي موزَّع الهوى بين ربع متأمرك بشيء من التخفي وربع يحاول ممارسة بعض فنون التكتكة السياسية من خلال تعزيز خطوط الاتصال مع ايران احياناً ومع الصين، كما توضح الزيارة التي قام بها البشير رئيس «القارة السابعة» اي السودان إلى «القارة السادسة» اي الصين.

بالنسبة إلى الرئيس مبارك، قد يكون مردود زيارته الى موسكو، وفيراً على الصعيد الاقتصادي، حيث ستقدم الحكومة المصرية لرجال الأعمال الروس، منطقة اقتصادية حرة، ليتمكنوا من العمل فيها بتسهيلات معيَّنة وتطوير مختلف انواع الانتاج، بما في ذلك صناعات الأدوية والنفط والغاز وغيرها، وكذلك على الصعيد النووي. فالرئيس المصري يتطلع الى خاتمة مِسْكية لرئاسته المديدة، لا يجد لدى الصديق الاميركي ما يؤكد مساندة لها. بل يجوز القول ان مبارك، يريد انجازاً نووياً مماثلاً للإنجاز الايراني، ولا يرى الامكانية متاحة سوى من روسيا، لأن الصديق الاميركي يُكثر من الوعود لكنه ينقض العهود. ولماذا لا نفترض ان الرئيس مبارك في مبتغاه النووي هذا، يقتبس من الرئيس الأسبق عبد الناصر سياسة النكاية التي اعتمدها في الخمسينيات، عندما تراجع الاميركان عن مشروع تمويل السد العالي، فطَرَقَ الباب الروسي، ووجَدَ الجواب الوافي الذي افرح قلبه، من دون ان يدري ان هذا الترحيب الفوري بالطلب الناصري، سيضع مصر والمنطقة في مهب صراع مستمر الحلقات الى الآن. وهذا التطلع من جانب مبارك يفسر لنا حرصه على ان يقول في لقاء مع مندوبي صحف روسية قبل يومين من زيارة موسكو «ان بوتين ملم جيداً بالوضع في روسيا والعالم، ويفهم كل شيء. ان دستوركم الذي لا يسمح بولايتين رئاسيتين مستوحى من الاميركان. انكم تنتقدون الاميركان لكنكم تقلدونهم. احزموا امركم. ان روسيا بحاجة الى بوتين، فليبق...». وجاء هذا الكلام الذي نفته الرئاسة المصرية لاحقاً، بعدما كان بوتين الذي تنتهي ولايته الرئاسية الثانية والأخيرة عام 2008 كرر أن الدستور لا يسمح له بالترشح لولاية ثالثة على التوالي، مقترحاً في الوقت نفسه ان يستمر في الاضطلاع بدور مؤثِّر في روسيا بعد انتهاء ولايته. اما لماذا هذا «التدخل الطيب النية» من جانب مبارك الذي بدأت ولايته الرئاسية الرابعة، قبل اشهر في الشأن الروسي، فلأنه يرى ان ما يتطلع اليه قد يتحقق في حال بقي بوتين رئيسا، فضلاً عن ان هذا الأخير شغوف بالنكايات خصوصاً اذا هي أتته من صديق لأميركا مثل الرئيس مبارك، الذي قال رداً على ترحيب بوتين به في الكرملين: «كنا دائماً نرغب في تطوير علاقاتنا مع روسيا». اما الترحيب البوتيني فتمثَّل بقول «القيصر» الروسي المفعم شباباً وحيوية مخاطباً مبارك: «اننا حقيقة سعداء بزيارة اصدقائنا القدامى لروسيا. ان مصر شريك تقليدي وقريب جداً..». وهو، اي بوتين، شغفه بالنكايات، يلتقي مع شغف القيادة الصينية الشابة التي تداهن اميركا ظاهرياً، إلاَّ انها في الكواليس السياسية، تشجع كل رئيس دولة في اوروبا مثل جاك شيراك، وفي العام الثالث، مثل عمر حسن البشير يداوي ضيقه من السلوك الاميركي بزيارات وتصريحات واجراءات تتسم بالنكاية.. وكل حسب طريقته ووفق مزاجه.