ماذا وراء ظاهرة برليسكوني؟

TT

بعد أقل من سنتين على وصول اليميني المتطرف هايدر إلى السلطة في أحد البلدان الأوروبية الأكثر رفاهية واستقراراً (النمسا)، ينجح التحالف الفاشي الذي يقوده رجل الأعمال المشبوه برليسكوني في ايطاليا في الانتخابات التشريعية المنظمة أخيراً، مما يطرح تساؤلات ملحة حول تطورات واتجاهات الحقل السياسي الأوروبي.

ففي حين كان من الجلي ان اتجاه هذا الحقل يميل نحو افراز نمط جديد من التيار الوسطي يعوض القطبية الآيديولوجية السابقة التي اختفت مع الحرب الباردة (صراع الأحزاب الليبرالية المحافظة والتنظيمات الشيوعية والاشتراكية الراديكالية)، بدأت الاحزاب اليمينية المتطرفة تبرز كقوى صاعدة جديدة في أكثر من بلد أوروبي.

والمعروف ان بلدان القارة القديمة حكمتها في الاعوام الاخيرة باستثناء بلدين تشكيلات اشتراكية من يسار الوسط، سعت إلى بلورة خيار بديل عن الطروحات الاشتراكية التقليدية، بمزج قيم الحرية والفاعلية الانتاجية التي تقوم عليها الرأسمالية بمثل التعاضد والتضامن المألوفة في الآيديولوجيا الاشتراكية، وهو الخيار الذي أطلق عليه على نطاق واسع مفهوم «الطريق الثالث».

وحتى الأحزاب اليمينية العريقة بدأت تراجع في الاتجاه نفسه رؤاها وبرامجها، مقتربة من الخيار الوسطي، كما هو شأن التيار الديغولي في فرنسا والحزب الليبرالي الاسباني.

بيد أن تطورات الساحة النمساوية التي بدت مفاجئة وغير متوقعة، نبهت إلى ان خطر التطرف والفاشية لا يزال ماثلاً، يهدد القارة السائرة نحو التكتل الكامل في مثلها السياسية والقيمية. وقد تجذر هذا الخطر أخيراً بنجاح اللائحة التي يقودها برليسكوني في ايطاليا، الذي اعتبره الزعيم الاوروبي المعروف جاك دلور «كارثة حقيقية على القارة وعلى آفاق اندماجها».

والمعروف ان الرجل غريب على الفضاء السياسي الايطالي، وقد اشتهر بامبراطوريته المالية والإعلامية (عشرات المصارف واستثمارات عقارية وسكنية واسعة وثلاث قنوات تلفزية وعدة محطات اذاعية ومؤسسات صحافية ووكالة اعلان كبيرة). ولبرليسكوني صلات مشبوهة بتنظيمات المافيا، وقد مثل مراراً امام المحاكم في قضايا رشوة وفساد وغسيل اموال، وهو بحكم سيرته الشخصية ومساره السياسي غير مؤهل لقيادة بلد صعب مثل ايطاليا عانى في العقد الأخير من اضطرابات شديدة ومتواصلة ذهبت ضحيتها نخبه السياسية المرموقة.

أما برنامجه الانتخابي فقد ارتكز على الشعارات الرائجة لدى المجموعات العنصرية الفاشية، التي كانت إلى عهد قريب هامشية الحضور في الساحة الايطالية. وعلى رأس هذه الشعارات معاداة المهاجرين وتحميلهم مسؤولية الأزمة الاقتصادية والامنية التي تعاني منها بلاده، والاحتفاء بالخصوصية القومية الايطالية في مواجهة خطر الذوبان في مشروع اندماجي أوروبي بدون هوية، إلى جانب التمسك بالقيم الدينية المحافظة والتعصب الشديد للمؤسسة الكنسية، مما حدا بأحد المعلقين في الصحافة الايطالية إلى نعته بالاصولي المتطرف.

وبطبيعة الأمر، تنعكس تحالفاته السياسية في هذا الاتجاه، كما يتضح من تشكيله لجنة مشتركة مع «رابطة الشمال» العنصرية الانفصالية، التي يتزعمها آمبرتو بوسي ويقودها على طريقة التنظيمات الفاشية الموسولينية، والتحالف القومي بزعامة جيافرانكو فيني الذي لا يقل عن بوسي تطرفا وعنصرية.

ويحرص برليسكوني على استيحاء برنامجه السياسي من مسيرته المهنية، معتبراً ان لا فرق بين السياسية والأعمال، مقدما نفسه نموذج المواطن الناجح، مما حدا بصحيفة «ريببلكا» إلى تفسير فوزه المفاجئ بالقول «انه يغري مخيلة الناس، ببثه اساطير هي في نهاية الأمر من انشائه». ومن هذه الأساطير الوعود السهلة بالثروة السريعة للجميع، وبتقليص الضرائب، وجلب الأمن، وتكثيف الحريات. ولا شك أن الآلة الإعلامية الرهيبة التي يسيطر عليها قد ساعدته اكثر من غيرها في بث هذه الرسالة واغراء الناخبين بها. ولذا فأنها المرة الأولى في أوروبا التي تنجح فيها المؤسسة الإعلامية في السيطرة على الحقل السياسي من خلال سلاح الصورة وبريقها، وهناك مؤشرات للاتجاه نفسه في باقي البلدان الأوروبية.

وتلك هي الظاهرة التي نبه اليها قبل سنوات المفكر الفرنسي المعروف رجيس دوبريه في سلسلته حول «الميديولوجيا» أي علم وسائط الاتصال الذي أبدعه دوبريه، وبلور مفاهيمه وأسسه المنهجية.

إلا ان ظاهرة صعود برليسكوني، لا يمكن فصلها عن المسار السياسي الايطالي في السنوات الأخيرة، حيث لمسنا انهيار التشكيلات العريقة التي طبعت الأرضية السياسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسها الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي (بزعامة برونو كرايسكي) اللذان هيمنا على المعترك الآيديولوجي والسياسي قبل انهيارهما تحت وطأة الفساد المالي والصلات المشبوهة بحركات المافيا.

وقد عاشت ايطاليا بعد هذه المرحلة فراغاً سياسياً لم يسده سوى القضاة، ولم ينجح ائتلاف داليما ـ برودي في اخراج البلاد من مأزقها السياسي، مما يفسر انبثاق الخطر العنصري الفاشي من هذا الحطام. وكما تقول صحيفة «ستامبا»، فإن الناخب الايطالي يبحث باختياره برليسكوني عن وجه جديد «يخلصه من ساسة الماضي، يكون شبيهاً برجل الشارع وقريباً من الإنسان العادي، على ان يكون في الآن نفسه ثرياً ومحظوظاً».

بيد ان الساحة الإيطالية على خصوصياتها، تمثل مختبراً جدياً للواقع الأوروبي، فانطلاقاً منها نشأت التجارب الفاشية والليبرالية المحافظة والاشتراكية، وامتدت لبقية أوروبا. ولذا فإن ظاهرة برليسكوني تفسر في ما وراء ميزاتها الخاصة بأزمة التحول السياسي والآيديولوجي في الفضاء الأوروبي، وهي أزمة وثيقة الاتصال بانعكاسات نهاية الحرب الباردة، وبعوائق الاندماج الاقليمي وتأثيراته على الهويات القومية.