غزة: إدمان ثقافة الموت!

TT

ما هي مهمة الكتابة السياسية؟

الكتابة السياسية في العالم العربي تسقط في الرتابة المملة. التنظير لغة سائدة. أسهل عليك أن تنظِّر من أن تحلل. التحليل يتطلب ملامسة الواقع. يفرض عرض مواقف اللاعبين على المسرح السياسي. يقتضي تقديم الأمثلة والشواهد والوقائع. ثم تقديم رأي أو تبني موقف.

نعم، الكتابة السياسية لون أدبي غير خالد، لأنها ترتبط بحرارة المشهد الماثل وشرارة اللحظة. ثم تنطفئ الحرارة واللحظة بعد أيام أو أسابيع. أزمات اليوم هي أضحوكة الغد وتسليته. ليست إهانة لهيكل القول أن لا أحد يقرأ اليوم ما كتب في الخمسينات والستينات، اللهم إلا لدراسة فن المقالة السياسية عند أشهر كتابها المعاصرين.

الكتابة السياسية في الصحافة العالمية المتقدمة أقرب إلى فيلم تسجيلي مليء بالمشاهد من الحاضر والماضي. المقالة السياسية أشبه بالتحقيق (الريبورتاج) الصحافي. لا غنى عن التحليل والتنظير، لكنهما يحتلان جانباً من العرض وليس كله. في عصر لذائذ وأدوات الثورة المعلوماتية الإلكترونية، قارئ اليوم ملول. يريد أن يقرأ مقالة مفعمة بالحياة والحركة، مليئة بالمعلومات والأرقام والتواريخ المحددة، وبلغة سهلة، وعبارة رشيقة.

هذا عن الشكل والعرض، لكن ماذا عن الرأي والموقف؟ الكاتب السياسي والصحافي العربي يجيد السباحة! يسبح مع التيار. يركب الموجة السائدة. مُكرَهٌ الكاتب لا بطل. قيود الحرية فرضت عليه المسايرة. باتت الرقابة الذاتية تستبق الرقابة الرسمية. للعقل السياسي العربي أذنان طويلتان. يرغب في أن يسمع ويقرأ ما يرضيه ويوافق رأيه ومنطقه ويزكي موقفه، لأن التركيب التاريخي للعقل العربي لم يتعود النقد والمراجعة. ما زال أسير المسلّمات المطلقة.

الخطير في أزمة الكتابة السياسية أن المسايرة انتقلت من مداهنة النظام إلى مداهنة التنظيم. الكاتب الصحافي والسياسي يتملق ويتكيف مع المزاجية السياسية السائدة في المجتمع. الكاتب السياسي اليوم معرض للتخوين وللتكفير وللاتهام بالأمركة، إذا اعترض على منطق التنظيم في إدارة المعارك السياسية والجهادية. أنت تشاهد التلفزيونات. تسمع الإذاعات. تفتح الصحف. أنت أمام سيل منهمر من تعليقات الإطراء والامتداح والتشجيع. لا مساءلة لمقاومة إذا عجزت عن الارتفاع إلى مسؤولية الدفاع عن المجتمع والشعب والأمة في ساعة الخطر.

كان اسحق رابين يقول إنه يتمنى أن تغرق غزة في البحر. قتل رابين وبقيت غزة صامدة حية. لكن غزة اليوم تغرق في عنف غير مجد أشد خطراً من بحر عباب. غزة تدمن اليوم ما أسميه: «ثقافة الموت والعنف والعجز»!

غزة تحت الحصار الإسرائيلي. واقع صحيح. 1.5 مليون عربي محاصرون في رقعة لا تزيد مساحتها عن 300 كيلومتر مربع فقط، ومعرضون لعدوان عنصري بشع. لكن غزة أيضا تعاني من عقلية الحصار الذاتي. كان الانسحاب من غزة نصرا وطنيا وقوميا كبيرا. كان على غزة بعد الانسحاب أن تنهج نهجاً آخر في المقاومة: أن تتبنى ثقافة التفاؤل، ثقافة الحياة، ثقافة الإعمار والتنمية. كان على قيادات غزة أن تؤمن بأن التنمية هي أيضاً مقاومة. لا حرية سياسية بلا تنمية اقتصادية. إسرائيل لا تستطيع أن تستمر في احتلال العرب والانتصار عليهم، إذا ارتفع مستواهم المُعاش الاقتصادي، وتطور وعيهم الثقافي والسياسي.

اقترحت هنا مرارا أن تكون معركة الفلسطينيين المقبلة في الضفة، لا في غزة. المقاومة في الضفة هي التي سوف تقرر مصير الدولة الفلسطينية، بل وعروبة فلسطين. يحدث اليوم العكس تماما: استيطان متوسع في الضفة بلا مقاومة تذكر، فيما غزة التي تحررت نسبيا، تزدهر فيها مقاومة مسلحة غير مجدية تزيد حصارها شراسة وبؤسا وموتا.

كانت الفرصة سانحة أمام حكومة «حماس» لقيادة عملية تنمية وإعمار غزة، وتقديم صورة لسلطة دينية واعية ومدركة لقيمة الاقتصاد. كان عليها وقف الاقتتال، وفرض سلطة القانون. وقبل كل ذلك، كان عليها منع إطلاق صواريخ الصفيح والقصدير التي تستغلها إسرائيل في الانتقام من عرب غزة تدميرا واغتيالا وتجريفا لما تبقى من أرض زراعية.

بدلا من ذلك، انهمكت «حماس» وحكومتها في الاقتتال العبثي. شكلت ميليشيا «تنفيذية» من خمسة آلاف عنصر فزادت الاقتتال ضراما. على صعيد التنظير، تمسكت الحكومة بمسلمات «حماس» الآيديولوجية المطلقة: لا اعتراف. لا تفاوض. لكنها ناقضت نفسها بنفسها عندما خاضت الانتخابات وفق اتفاقات أوسلو. تنسى حماس أن الاعتراف ليس عبئا ثقيلا على التاريخ النضالي أو السيادي. فاوضت مصر والجزائر وتونس الاحتلال. توصلت إلى اتفاقات منقوصة الحقوق. لكن الاستقلال تعزز وترسخ، وأصبحت الوثائق المنقوصة من مهملات ونفايات التاريخ. كان الهدف الأول إنهاء الاحتلال.

حكومة ينقصها الخيال. بعد ثمانية شهور من الإصرار على الحكم، يعترف إسماعيل هنية بالإخفاق! يقبل بحكومة «كفاءات وتكنوقراط» لماذا هذا العناد الذي قطع المساعدات والهبات، وأوقع غزة في كل هذا البؤس والشقاء؟ لأن حماس/ دمشق وطهران تملك السيطرة على الذراع العسكرية في غزة، وتحيِّد ساسة حماس/ غزة. أمر بديهي أن ينزل الموت والدمار والشقاء بالعرب، عندما تسلم القيادات الأصولية الوطنية في لبنان وغزة قرارها السياسي لدولة أجنبية.

بات الجهاد أو الكفاح حرفة ومهنة. بات غاية وليس أداة نضالية ووسيلة. ثقافة العنف المطلق أنتجت ثقافة الموت والانتحار. ثقافة جنائزية محبطة نفسيا للهِمّة وداعية لليأس. ثقافة الموتى والشهداء المكشوفين في غزة. ثقافة الزحف المليوني لتبجيل أموات الأضرحة «المقدسة» في العراق. ثقافة الحزن والبكاء. كيف يمكن أن يشجع عويل النساء مقاومة عاجزة عن الانتقام؟ خطفت «حماس» وحليفاتها منذ أكثر من ثلاثة شهور الجندي جلعاد شليط. قتلت إسرائيل 300 فلسطيني بحجة البحث عنه. أخفقت كل المساعي إلى الآن في إقناع «مشعل» إيران بالإفراج عنه، في مقابل كمية عددية من الأسرى الفلسطينيين.

في بيت حانون، تحدى أهالي البلدة المنكوبة ثقافة الموت. طالبوا حَمَلَة صواريخ التنك بالامتناع عن إطلاقها من بساتينهم، ومن بين بيوتهم وأحيائهم. ثم سكتوا تحت التهديد بالسلاح. صمتوا إزاء تعبيرهم بالتخلي عن المقاومة. وقعت بيت حانون بين «حنين» المقاومة وحقد الانتقام الإسرائيلي. قتلت إسرائيل 60 ساكنا في عملية اقتحام البلدة. جرفت الأرض الزراعية. عندما انسحبت عاد حَمَلَة الصواريخ إلى إطلاقها فورا. كان رد العنجهية الإسرائيلية بقتل وجرح 40 مدنيا بالقصف المدفعي.

غزة لا تغرق في البحر. غزة تدمن ثقافة الموت اللامجدي. تلوك مرارة عجز المقاومة الفالتة والمرتجلة. تهاوت سلطة آباء وأجداد التنظيم. تحولت التنظيمات إلى ميليشيات. القادة «أبوات» جدد في أوائل العشرينات! استعاروا أسماء صحابة وقادة، من دون أن يملكوا وعيهم ونضجهم. الميليشيات ما لبثت أن تمزقت عصابات وفئات متناحرة في الأزقة والحارات. أجهزة الأمن المتعددة التي فبركها الراحل عرفات تحولت إلى مافيات تفرض الخوة. تحصلها من الجائعين والعاطلين عن العمل بديلا للمرتب غير المقبوض منذ شهور. شقاء كبير للمقاومة أن يغدو «حاميها حراميها»!

لا يمكن لكتاب السياسة المسايرين والمتشنجين مطالبة النظام العربي بمسايرة مقاومة فالتة ومرتجلة، يقودها شباب صغار ما زالوا في سن الحلم والتجربة. القيادة مسؤولية عن أمة بكاملها. التجربة علمت النظام العربي أن لا يغامر بواقع الضعف الراهن، بالاشتباك مع العدو، من دون ضمان واقع أفضل على الأرض وفي السياسة. إذا كان صعبا ومستحيلا الضغط على إدارة أمريكية هوجاء ومغرقة في تأييد إسرائيل، فعلى الديبلوماسية العربية أن تبذل جهداً أكبر لإقناع أوروبا بالضغط على إسرائيل. أوروبا تمسك بخناق إسرائيل الاقتصادي. معاقبة إسرائيل بوقف استيراد بعض إنتاجها كاف للحد من غلواء الغطرسة والوحشية الإسرائيلية.