أميركا بعد العراق: رؤوس أينعت وحان قِطافُها

TT

اسقط العناد السلوك البوشي، بل يجوز القول ان جورج بوش الإبن هذا الرئيس المكابر سقط بالضربة العراقية التي هي مثل الضربة القاضية من حيث المفعول. ولا تخفف من وطأة هذه الضربة ان الرئيس المكابر قدَّم الى الشعب الاميركي وشعوب العالم المتضررة من السياسة الاميركية خَروفه المدلَّل المتسلط دونالد رامسفيلد ذبيحة رئاسية يظن من خلال دمها المعنوي البارد المراق على جوانب «البنتاغون» ان سمعة البيت الابيض ستكون في السنتين المتبقيتين من الولاية الرئاسية البوشية الثانية افضل، ذلك ان حال الرئيس بوش بعد الآن ليست افضل، من حال الرئيس اللبناني اميل لحود الذي لا يقل عن زميله الاميركي عناداً وتشبثاً بما هو ليس منطقياً.

لقد قيل الكثير للرئيس بوش قبل ان يغزو العراق بأن الحل من خلال الغزو لن يفيده وسينشأ عن ذلك بُغض عربي وإسلامي للسياسة الاميركية لا مثيل له، لكنه مع ذلك اصر وجعل من الحل العسكري كارثة على الشعب العراقي ومعضلة للمجتمع الدولي وارتباكاً لأصدقاء اميركا في المنطقة وكابوساً للمجتمع الاميركي. وهو لو اصغى بعقل مفتوح للناصحين وبالذات للملك عبد الله بن عبد العزيز يوم كان ما زال ولياً للعهد وللرئيس حسني مبارك ولرئيس الوزراء رفيق الحريري لكان وفر على رئاسته سمعة سيئة اصابتها ووفر على الالوف من ابناء الشعب الاميركي الذين رماهم جنوداً يحاربون في العراق مصير القتل والانتحار والإعاقة، كما انه كان وفر على عشرات الألوف من ابناء الشعب العراقي الويلات المستمرة الى الآن حيث مسلسل القتل والتفجير والاغتيال والتمثيل بالجثث والخطف يحدث يومياً.

ومع ان النصائح لم تتوقف حتى بعدما غاصت اميركا في المستنقع العراقي، إلاَّ ان الرئيس بوش بقي على مكابرته يصغي فقط لنائبه ديك تشيني ولوزير دفاعه دونالد رامسفيلد ولبعض كواسر الادارة البوشية الذين تنعَّموا وجنوا الثروات من الحرب على العراق على نحو ما حصل عليه كواسر الوجود السوري في التسعينيات في لبنان وكواسر الوجود المصري في الستينيات في اليمن. وهو بدل ان يتخذ خطوات في اتجاه تصحيح الوضع نراه يمعن عناداً ويزداد مكابرة إلى درجة إفراغ القضاء العراقي من استقلالية يحتاج اليها لتأكيد مصداقيته والابتهاج بإصدار المحكمة العراقية قبل ساعات من الانتخابات الاميركية الحكم بالإعدام على الرئيس صدَّام حسين على اساس ان هذا الحكم ورقة يستعملها لتأكيد نجاحاته في العراق الغارق في بحر الدماء نتيجة الغزو الاميركي له وما استتبع الغزو من تداعيات.

وعلى الرغم من اهمية الخطوة المتمثلة بالإقالة التكريمية لفظاً لرمز الإخفاق الاميركي في العراق ونعني به وزير الحرب دونالد رامسفيلد، فإن هذه الخطوة المماثلة لخطوة الرئيس عبد الناصر في يوليو (تموز) 1967 بالإقالة التكريمية لرامسفيلد الزمن الناصري المشير عبد الحكيم عامر، ربما كانت ستُفيد في تقليل حجم الهزيمة لو أن استبدال رامسفيلد بوزير مخابراتي الباع هو روبرت غيتس حدث قبل شهر من الانتخابات لأن الاستبدال في هذه الحال كان سيطفئ بعض الشيء لظى الاطياف الاميركية الغاضبة على الادارة البوشية مواصلتها رمي الابناء في الأتون العراقي. لكن الرئيس بوش لم يفعل ذلك لأنه ربما لا يستطيع، او فلنقل ان اطراءاته الكثيرة في الماضي لدونالد رامسفيلد وبالذات بعد اتساع انتقادات الجنرالات السابقين له تجعل من قرار الاستبدال امراً مثيراً للتعجب، اذ كيف بهذه السرعة يتحول الاعجاب الى قرار بالاستبدال.

وفي اي حال ان رأس رامسفيلد ليس الوحيد وليس الاخير الذي اينع وحان قطافه. فهنالك لكي تمضي الشهور المتبقية من الولاية الرئاسية البوشية الثانية على سلامة بقية الرؤوس امثال وولفويتز وجون بولتون الذي أضر في أروقة الامم المتحدة اكثر مما افاد، كما هنالك دوغلاس فايث وكروسمان واليوت ابرامس وعشرات من فراخ الكواسر المتصهينين الذين توزعوا على مفاصل القرار في الخارجية وفي وزارة الدفاع وفي الاجهزة الامنية ونجحوا في اسوداد السمعة الاميركية وثني سيد البيت الابيض وسمرائه كوندوليزا عن الصعود الى قارب النجاة الذي رماه الى اميركا والمجتمع الاوروبي الملك عبد الله بن عبد العزيز يوم كان ما زال ولياً للعهد ثم حافظ عليه، بعدما تسلّم دفة القيادة ملكاً، كمبادرة حظيت بالإجماع العربي لأن طارحها ومبتكر مضمونها هو عبد الله بن عبد العزيز بما يمثله من قيم وحرص على الثوابت والأمانة الوطنية والقومية. وكان من شأن الأخذ بهذه المبادرة وعدم الإكثار من التكاذب في شأن التعامل معها ان تُبرِّد نار الارهاب وتُطمئن المشككين في النوايا الاميركية وتُنهي بالتي هي احسن المأساة العراقية وتكبح الشر الصهيوني في اتجاه لبنان وفلسطين، وتحمل اهل الحكم الايراني على ان يستديروا نووياً... أي بالعربي الفصيح والفارسي الأفصح تجعل من الادارة البوشية رمزاً للزعامة التاريخية التي لا يجتاحها الحزب الديمقراطي بأهون السبل وعن طريق الاخطاء المتراكمة والناشئة عن المكابرة والعناد والاستخفاف بالحقائق والثوابت التي تعني الكثير للآخرين.

بعد الذي حدث لا مجال امام الرئيس بوش الابن سوى مداواة الجرح قبل نهاية ديسمبر (كانون الاول) المقبل بخطوة صادمة تفيده وإن هي جاءت متأخرة لأنه في النهاية ما زال يملك رسمياً السلطة في «الكونغرس الجمهوري» كون «الكونغرس الديمقراطي» لن يتسلم رسمياً قبل بدء العام 2007. وهذه الخطوة التي من شأنها ان تغسل آثام الحرب على العراق وموبقات التأييد المطلق لإسرائيل وسقطات اللسان حول الاسلام والارهاب وحماقات ممالأة العدوان الاسرائيلي على لبنان واعتبار عدوان اولمرت ومِنْ قبل ذلك عدوان شارون على الفلسطينيين حقاً مشروعاً ودفاعاً عن النفس، هي في اعلان مفاجئ بأنه اتكل على الله وأعلن رسمياً قيام الدولتين المتجاورتين المتعايشتين: دولة اسرائيل ودولة فلسطين. وهو اذا اعلن ذلك سيربك الديمقراطي المبتهج بالفوز والعربي المكسور الخاطر ويحقق الأمان للاسرائيلي. وفي هذه الحال سيدخل التاريخ من بوابة الجمهوري المهزوم والديمقراطي المنتصر وينقذ عشرات الرؤوس التي اينعت وحان قِطافُها في الادارة البوشية العنيدة... وعلى نحو موسم القطاف المستمر في بلاد الرافدين.