جو سياسي إيجابي في واشنطن يقابله واقع شرق أوسطي سلبي

TT

سارع رئيس الوزراء توني بلير، إلى إعلان خطوات عملية، للاستفادة مما أتت به رياح انتخابات الكونغرس بما لا تشتهيه سفينة الرئيس جورج بوش المبحرة بخرائط ملاحية قديمة، لا تبين التيارات الجديدة وأخطارها.

ديبلوماسية بلير حكيمة وغير مباشرةSubtle Diplomacy ، فهو لا يحرج فيها الحلفاء ولا يستفز الخصوم، حيث استغل مناسبة تقليد توضيح رئيس الوزارة للسياسة الخارجية في حفل العشاء بقاعة المهن الحرفية الـGuild Hall City ـ حي المال والبنوك ـ عقب اختيار اللورد عمدة مدينة لندن، (وهو غير عمدة لندن اليساري ليفنجستون المتطرف)، في مهاجمته للبلدان العربية الحليفة لبريطانيا. وعدد بلير اولويات سياسته بالبدء بحل قضايا الشرق الأوسط والعراق ومكافحة الإرهاب.

وفي اليوم التالي شارك، عن طريق وصلة فيديو، في اجتماع «مجموعة عمل العراق الأمريكية» Iraq Study Group برئاسة وزير الخارجية السابق جيمس بيكر الثالث.

وكانت قبلها قد سربت مصادر داوننج ستريت معلومات حول تقديم الزعيم البريطاني النصيحة للامريكيين بتغيير الاستراتيجية في العراق، والبحث عن حلول خارج العراق، اهمها التركيز على تسوية فلسطينية إسرائيلية، ودعم اللبنانيين لتأكيد استقلالهم واستقرارهم، وللحوار مع سوريا وايران بسبب دوريهما في المشكلات الثلاث.

استراتيجية بلير ثابتة منذ ثلاث سنوات. وخطابه الأخير هو تلوين النقاط بحبر أكثر وضوحا على الحروف نفسها، لخطابيه في لوس انجليس في يوليو، وفي كانبيرا، عن اولويات السياسة الخارجية والحفاظ على قيم العالم الحر، وهي قيم يتطلع اليها الديموقراطيون ومحبو السلام والحرية من المسلمين داخل الشرق الاوسط وخارجه.

انتخابات الكونجرس كانت استفتاء رفض فيه الامريكيون تصلب ـ واخطاء وحماقات ـ الجناح المتشدد من المحافظين الجدد، فذهبت رئاسات لجان مجلسي الكونجرس، كالعلاقات الخارجية، والدفاع، والأمن والتجارة، الى الديموقراطيين.

وبلير يتمتع باحترام وتقدير النواب، جمهوريين وديموقراطيين. فهو محام بارع، ومتحدث فصيح، استحوذ على قلوبهم واحترام عقولهم عندما خاطبهم سواء بجانب الرئيس السابق بيل كلينتون؛ او الحالي، بوش.

موقف بلير المبدئي باعلان وقوف بريطانيا كتفا الى كتف مع امريكا فور عدوان «القاعدة» الإرهابي عليها في 9/11، وبتذكيره للحقيقة التاريخية، بدور امريكا وتضحيات جنودها على شواطئ اوروبا في الحرب العالمية الثانية لانقاذهم من البربرية النازية، أكسب بلير موقعا دافئا في قلوب ألأمريكيين، خاصة مع نكران كثير من ساسة اوروبا لجميل أمريكا اثناء الحرب العالمية الثانية، وبعدها في مشروع مارشال لإعادة بناء اوروبا.

التغيرات في كابيتول هيل، أزالت الشمع المتراكم في آذان البيت الأبيض لتصبح أكثر انصاتا وتقبلا لنصيحة لندن، التي هي أكثر دراية بمنطقة الشرق الاوسط، ويتمتع ساستها وديبلوماسيوها بثقة واحترام العقال من زعماء المنطقة.

رحيل دونالد رامسفيلد عن البنتاجون، ليس مجرد تضحية رمزية من الرئيس بوش بالشخصية التي تمثل مجموعة الأخطاء المتراكمة وسلبيات السياسة الامريكية التي حولت فرحة العراقيين بتحطيم اصنام صدام وانهاء ديكتاتورية البعث الى مأساة ومستنقع يصعب الخروج منه؛ وانما اشارة واضحة للبحث عن استراتيجية جديدة.

فروبرت جيتس، الذي يقود سفينة البنتاجون، ويتمتع بخبرة طويلة في الأمن واستراتيجيته، بحكمة تاريخية المهني في وكالة المخابرات المركزية، شريك بيكر في مجموعة العمل العراقية، ووجهات نظره بشأن المنطقة تتقارب مع تحليل الزعيم البريطاني للموقف.

كان جيتس، في تقريره لمجلس العلاقات الخارجية الامريكي عام 2004 وفي عدد من المقالات (وللقارئ مراجعة بروفايل روبرت جيتس في الشرق الأوسط السبت 11 نوفمبر) قد نصح بفتح الحوار مع سوريا وايران، مع تقديم حوافز، والتلويح بعقوبات في الوقت نفسه، فالحوار والانفتاح ينشط المجتمع المدني كاداة للتغيير في البلدين. ونصح بمقايضة تفكيك منظمة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة في العراق، بوقف إيران دعمها لمليشيات الشيعة في الجنوب اللبناني.

وسياسي في خبرة بيكر، والذي ينتمي الى مدرسة الواقعية السياسية، يستفيد من خبرة رجل كجيتس في المخابرات المركزية ومجلس الأمن القومي بضمه للمجموعة العراقية، وشهادة او بالأحرى نصيحة، بلير للجنة بيكر عبر الاتصال التلفزيوني الثلاثاء، جاءت لتشدد على ضرورة وضع مقترحات جيتس محل التطبيق العملي.

وبيكر كان من أكثر وزراء خارجية امريكا قدرة وكفاءة ورجلا يملأ مركزه، لكنه وزميله لي هاميلتون والـ 13 الآخرين في المجموعة بمن فيهم جيتس، ليسوا بسحرة قادرين على المعجزات، وانما يأملون في تقديم مساحة أكثر اتساعا من الخيارات المتاحة امام البيت الابيض، وايضا قائمة بالمخاطر والمجازفات والثمن الذي يتطلبه اي من هذه الخيارات، لبدء الجدول الزمني للانسحاب من الورطة في العراق. ومن الناحية الواقعية، ليس من العدل ان يتوقع العالم من بيكر ومجموعته تقديم الحل الأمثل للخروج من العراق حيث انهارت الدولة تماما.

وربما نتفق مع رئيس الوزراء بلير في ضرورة ايجاد حل عادل للقضية الفلسطينية تبدأ خطواته بالحفاظ على ارواح المدنيين الفلسطينيين والاسرائيليين على السواء، وايضا محاولة ايجاد ارضية حوار مشترك مع ايران وسوريا، لكن ما هي فرص نجاح مبادرات بلير على ارض واقع الشرق الأوسط؟

فحماس، المنظمة التي فازت في الانتخابات الفلسطينية العامة، وشكلت الحكومة، ترفض الالتزام بالاتفاقيات التي وقعتها الحكومة السابقة وترفض الاعتراف بحق اسرائيل في الوجود، مما يقضي على اي امل في قبول الاسرائيليين لأي مفاوضات تسوية للقضية الفلسطينية وحماس لا تزال في الحكم.

ايران، بدورها، ردت على مبادرة بلير بدفع مليشيات تدعمها في جنوب العراق الى تفجير زورق دورية بريطانية في شط العرب، مؤديا الى مصرع أربعة بريطانيين، بينما تشير تقارير استخباراتية الى نشاط ايران في تهيئة زعامة لـ«القاعدة» لمرحلة ما بعد بن لادن والظواهري، تكون أكثر تعاطفا وتعاونا مع ايران، مما لا يبشر بقرب تخليها عن دعم المتطرفين.

وثمن تعاون ايران من اجل استقرار العراق، يصعب ان يدفعه المجتمع الدولي: قبول العالم حقها في تطوير تكنولوجيا الذي قد يمكنها من انتاج قنابل نووية وتغاضيه عن دورها في دعم حزب الله ومنظمات متطرفة. كما انها تعرقل عملية السلام بين فلسطين واسرائيل وتدعو علنا الى تدمير الدولة اليهودية.

اما سوريا فلن تتعاون قبل اغلاق ملف اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، خاصة لاقتراب الادلة من قيادات سورية، كما تريد استئناف مفاوضات استعادة الجولان مع اسرائيل من حيث توقفت ايام الرئيس الراحل حافظ الأسد. التحقيق في اغتيال الحريري امر دولي وليس انجلو ـ امريكيا مما يصعب على بلير اخراج القيادة السورية من الورطة اذا أراد.

رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود اولمرت، بدوره، في موقف سياسي داخلي لا يحسد عليه. واي تنازل يقدمه اولمرت لسوريا الآن، ستستغله المعارضة اليمينية بزعامة بنيامين نتانياهو على انه «مكافأة لسوريا على دفعها حزب الله وحماس للاعتداءات واشعال الحرب في الصيف»، وبالتالي لن يستطيع اولمرت اقناع الناخب الإسرائيلي بفائدة التفاوض مع سوريا؛ بينما يتشكك الناخب الإسرائيلي تقليديا في اي مبادرات من بريطانيا باعتبارها حليفا تاريخيا للعرب.

الخريطة السياسية الجديدة في واشنطن منحت بلير فرصة أكبر لإقناع بوش بسياسة أكثر حكمة، وللأسف، فإن الخريطة السياسية الحالية للمنطقة تجعل تطبيق استراتيجيته شبه مستحيلة.