لماذا إسرائيل محمية بالفيتو الأمريكي؟ خلفية أخرى للجواب

TT

يتلخص نمط رئيس في التفكير اليهودي الديني في أن يكون المسيح المنتظر من نسل داود عليه السلام، الذي سيأتي ليؤسس مملكته، ويكون لليهود من دون سواهم، ومكملاً لشريعة موسى، أي تكون المسيحية تتمة لليهودية، فهل يمكن اعتبار قيام دولة إسرائيل تحقيقاً لنبوءات توراتية؟

الجواب: نعم بحسب معتقدات غالبية الطوائف البروتستانتية الغربية، حتى أن البعض كان موقناً أن الله حارب العرب إلى جانب اليهود عام 1948، وما إسرائيل اليوم إلا استمرارية لإسرائيل التوراة، وما الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 إلا لمشيئة إلهية، حتى وصل الغلو عند القس جري فولول إلى اعتبار أن من يعادي دولة إسرائيل، فإنه يعادي الله، باختصار، هناك من يتعمد الخلط بين تاريخ إسرائيل كدولة صهيونية وتاريخ الدين اليهودي، مع أن الفكر اليهودي لا يهتم غالباً بوجود الدولة، وأكثر فترات ازدهاره كانت في الوقت الذي عاش فيه الشعب اليهودي في المنفى.

السؤال: هل لليهود حق ديني بالفعل في فلسطين؟

تحدد التوراة بدء تاريخ العبرانيين بهجرة إبراهيم عليه الصلاة والسلام من بلاد الرافدين إلى فلسطين عن طريق حاران، في حين أقام حفيده يعقوب بن إسحاق في «فدان أرام»، وأصبح زعيماً للعبرانيين، وأطلق على نفسه أو أطلق عليه، اسم إسرائيل، وينتسب العبرانيون إلى إبراهيم عليه السلام الذي لقب بالعبري، إما لعبوره نهر الأردن أو نهر الفرات، أو تيمناً باسم أحد أحفاده المدعو «عبير» كما تذكر بعض الروايات، أما العبرانيون فيعتقد أنهم البدو الأوائل الذين استوطنوا كنعان على ثلاث هجرات، اثنتان أسطوريتان والثالثة تاريخية وتنسب إلى موسى عليه السلام حين انطلق من مصر أواخر القرن 13 قبل الميلاد، ويبقى الكلام مجرد فرضيات ما دامت شواهد الحفريات لا تظهر هذه المعلومات.

والآن، ماذا عن هوية إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذي يزعم اليهود أنهم من نسله وأنه جدهم الأول؟ جاء في سفر التكوين أنه عبراني، وفي سفر التثنية أنه أرامي، وفي الحالتين لم يولد في فلسطين، بل في «أور الكلدانيين» بالعراق، ومنها انتقل إلى «حاران» ثم إلى «أرض كنعان»، وفي ذلك أول دلالة على أسبقية الوجود الكنعاني بفلسطين، أضف إليه، أن موسى عليه السلام الذي تبتدئ به الديانة اليهودية لم يولد في فلسطين أصلاً، ولم يعش فيها، بل ومات ولم تطأ قدماه أرضها، أما عصر ملوك إسرائيل فلم يمتد أكثر من أربعمائة سنة، وانتهى على يد الآشوريين والبابليين، وفي حين تم سبي معظم اليهود من فلسطين إلى العراق، فإن سكان فلسطين الأصليين بقوا على أرض فلسطين ولم يغادروها لا قبل السبي ولا بعده، بل واستمر وجودهم داخل مدينة القدس زمن حكم داود وسليمان عليهما السلام ومن بعدهما، مما يعني أن مجيء اليهود إلى فلسطين إبان عصر القضاة وعصر الملوك لم يكن أكثر من غزو عابر للمناطق الداخلية بفلسطين.

واستناداً إلى التوراة نفسها، فإن أسبقية السكن والاستقرار الحضاري المتواصل كانت لقبائل عربية، قاومت باستمرار الغزو العبراني غير المستقر، أما عبارتي «أرض كنعان» و«أرض فلسطين» فمن الملاحظ تكرارهما في أكثر من سفر توراتي، بينما لم يرد في السرد ذكر «أرض العبرانيين أو الإسرائيليين أو اليهود»، مما يقودنا إلى بطلان الإدعاء اليهودي بالحق التاريخي، إن من حيث الولادة على أرض فلسطين، وإن من حيث أقدمية السكن فيها، وإن من حيث الاستمرار الحضاري غير المنقطع، ولو جاز للغزو اليهودي العابر امتلاك فلسطين، لجاز للعرب كذلك استرجاع الأندلس بعد حكم ثمانية قرون ونيف، ثم وبأي منطق يُمرر ليهود أوروبا غير المتحدرين من ذرية إبراهيم ولا المولودين على أرض فلسطين الإدعاء بحقهم التاريخي بها وبتهجير سكانها منها؟

اليهودي في الموروث الديني، يعود بانتسابه إمّا إلى أم يهودية بصرف النظر عن أصل الأب أو نقاء العرق، أو إلى التهوّد، وحتى الملحد فيهم فإنه يظل يهودياً في الشرع اليهودي بخلاف الإسلام والمسيحية، وإلى اليوم لا يوجد تحديد رسمي في الدستور الإسرائيلي حول ماهية اليهودي أو تحديد لجغرافية بلاده، فإسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تنظر إلى نفسها باعتبارها ممثلة للمستوطنين فيها فحسب، وإنما باعتبارها «دولة الشعب اليهودي» في شتى أنحاء المعمورة، وكما ورد في «إعلان الاستقلال»، وبحسب «قانون العودة الإسرائيلي» فإنه يمكن لكل يهودي اكتساب الجنسية الإسرائيلية بمجرد الهجرة إليها بنية الاستيطان، إنه الحق الذي يمنح لليهود ويحجب عن أهل البلاد الأصليين، أي الفلسطينيين، وعلى العموم، فإسرائيل في العرف الدولي السائد هي دولة عنصرية، وبإقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1975.

غاية القول، ليس لعامة اليهود تاريخ مستقل، وإنما موزع على أماكن الجماعات اليهودية التي أتوا منها، بأنماط إنتاجية وبنى حضارية تعددت باختلاف الزمان والمكان، فيهود اليمن غير يهود هولندا وهكذا، ثم وإذا افترضنا جدلاً وجود تاريخ يهودي، فما هي أحداثه ومعالمه؟ فإن كان للثورة الصناعية أثرها بين يهود الغرب، فقد حصل ليس باعتبارهم يهوداً، وإنما أقلية تواجدت داخل المنظومة الحضارية الغربية آنذاك، أما يهود العالم العربي فلم يتأثروا بالثورة الصناعية بالدرجة نفسها ذلك لأن التشكيل الحضاري العربي كان بمنأى عن الخارج الغربي، دع عنك يهود أثيوبيا الذين لم يصلوا في تفاعلهم إلى أي درجة تذكر.

التتمة، ليس هناك أدنى صحة لما جاء في إعلان «الاستقلال» عند قيام دولة إسرائيل عام 1948، بأن المستند الحقوقي هو «الحق التاريخي»، ولا نقول إلا أن الأصولية المسيحية الغربية، وبالأخص الولايات المتحدة، قد عمدت إلى تسييس الدين المسيحي بادعاءات بعيدة عن الأسانيد العقلية والمنطقية والشرعية، مصرة على إعطاء الصهاينة الحق الديني بالرجوع إلى النبوءات التوراتية، والتي لا تنطبق عليها بالطبع القوانين الأرضية، فإذا استوعبنا ذلك كله على غرابته، لم نستغرب استخدام الفيتو الأمريكي ضد إدانة إسرائيل في مجزرة بيت حانون.