ثم ماذا..؟

TT

العنف في العراق أصبح من سمات الحياة اليومية، فلا يمر يوم إلا ونسمع بمجازر يرتكبها هذا الطرف ضد ذاك، وذاك الطرف ضد هذا، والعنف واحد وإن اختلفت الأطراف. سنة ضد شيعة، وشيعة ضد سنة، وأكراد ضد عرب، وعرب ضد أكراد، والكل يرفع شعار مصلحة الوطن والمواطن، وتستمر سلسة الدم والدمار. وفي لبنان هناك تصعيد مستمر بين فرقاء سياسيين، كل منهم يغني على ليلاه، حتى وصلنا إلى نوع من طريق مسدود لا يعلم إلا الله وحده إلى أين سينتهي: حرب أهلية جديدة، أم صراع قوى خارجية على أرض لبنان، أم عودة إلى حديث الكانتونات وحالة ما قبل الطائف، وكل الاحتمالات مفتوحة طالما كان الوفاق الوطني مفقوداً، وطالما كانت هناك قوى لها مصلحة في استمرار الفوضى اللبنانية، السياسي منها والاجتماعي.

وخارج لبنان والعراق، هناك قوى إقليمية تؤجج الأوضاع كلما مالت إلى الهدوء، فاستقرارها في النهاية يعتمد على فوضى الآخرين. إيران تريد أن تدخل نادي الكبار عن طريق امتلاك خاتم سليمان المعاصر، كما هو معتقد، أي طاقة الذرة، ولكن هذا النادي متخوف من تحالف إيديولوجيا معادية لما سواها، مع طاقة من الممكن أن تمحو البشرية من على وجه الأرض. القضية ليست في أن تمتلك هذه الدولة أو تلك طاقة الذرة، ولكنها في من يمتلك هذه الطاقة، وإمكانية استخدامها فعلياً في حروب إقليمية أو دولية، ومن هنا تأتي أيضاً خشية جيران إيران. إيران لن تستطيع مواصلة جهودها النووية إلا في حالة من عدم استقرار إقليمي، وخاصة في دول جوارها، ومن هنا تتبين المصلحة الإيرانية في استمرار الفوضى السياسية سواء في العراق أو لبنان، ولا مانع من محاولة زعزعة الأوضاع في ديار أخرى إن أمكن ذلك.

وسوريا تجد نفسها في حالة من عزلة دولية وإقليمية، بعد أن أصبحت المتهم الرئيسي في حادثة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وغيره من شخصيات لبنانية، ومع إقرار المحكمة الدولية، يجد النظام السوري تحديداً أنه أصبح أكثر قرباً من خطر لا راد له إلا خلق بلبلة وفوضى سياسية في البلد المعني بالأمر أكثر من غيره، ونقصد بذلك لبنان. الانهيار السياسي في لبنان، وما قد ينتج عنه من نتائج لا يمكن التكهن بها، هو الفرصة الأخيرة للنظام السوري كي ينقذ نفسه، بل يمكن القول إنه القشة التي يتعلق بها الغريق السوري في هذه الحالة. كما أن أي استقرار في العراق هو تهديد للنظام القائم في سوريا، ذي الطبيعة المشابهة، بل المتماهية، مع النظام السابق في العراق. المصلحة السورية، بل لنقل مصلحة النظام السياسي في سوريا، هي أن تستمر الفوضى العراقية، إذ أن ذلك يشكل جبهة امتصاص بالنسبة له، وبذلك نعني أن مثل هذه الفوضى، ومثل عدم الاستقرار هذا، يخفف من الضغط على النظام، كما هو الحال في لبنان أيضاً. عدم استقرار الأوضاع في لبنان والعراق، هو الورقة الرابحة التي من خلالها تستطيع إيران المناورة والمراوغة، وتستطيع سوريا من خلالها محاولة استمرار النظام، ومن هنا كانت المسألة العراقية والمسألة اللبنانية قضية حياة أو موت بالنسبة للطرفين.

قد يكون مثل هذا التحليل السريع للأوضاع الإقليمية في المنطقة معروفاً ومدركاً لمن أراد تحليلاً بعيداً عن غايات النفوس، وبوصلة المصلحة والعقيدة السياسية، ولكنه يجب أن يكون نصب العين دائماً، لأن الأسئلة التي يثيرها هي الأهم، حين النظر إلى مستقبل هذه المنطقة ومستقبل شعوبها. الصراع في العراق مثلاً، إلى أين سينتهي؟ استمرار الصراع الدموي هناك لن ينتهي بخروج القوات الأميركية مثلاً، ولن ينتهي باحتكار السلطة من قبل هذه الفئة أو تلك، ولن ينتهي بهيمنة إيرانية على العراق. العراق بلد متعدد الأعراق والطوائف: هكذا كان وهكذا سيبقى، ولن تستطيع فئة أن تُرضخ جميع الفئات، مهما كانت قوتها، ومهما كان أمدها. تجاهل هذه الحقيقة لن يؤدي بالعراق في النهاية إلا إلى استمرار العنف إلى آخر عراقي، أو هو التقسيم الذي لا يريده أحد. ربما تكون مصلحة هذا الطرف الخارجي أو ذاك أن يستمر العنف، أو أن يحدث التقسيم، ولكنه لن يكون في مصلحة العراقيين أنفسهم، مهما كانت المكاسب الآنية لهذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع. وذات الشيء يمكن أن يُقال عن لبنان، فهو بلد تقوم شرعية وجوده على تعدد أعراقه وطوائفه، وأية محاولة لتجاهل هذه الحقيقة أو القفز فوقها، هو تجاهل للشرعية اللبنانية، وبالتالي قضاء على الوجود اللبناني. هنالك اليوم في لبنان من يُصعد وتيرة الصراع السياسي، بناءً على أسس طائفية وإقليمية، وقد يكون ذلك لحساب طرف أجنبي، وقد يكون لحساب مصالح فئوية آنية، ولكن سيكون هو الخاسر في النهاية، لأنه بدون وجود لبنان بشرعية تعددية، فإنه في النهاية لا وجود لأحد.

هل أن العراقيين واللبنانيين لا يعرفون مثل هذه الأمور، وهم المتمرسون في السياسة منذ دهور؟ ليست المسألة بهذا الشكل، بقدر ما أن المراقب الخارجي، وخاصة عندما تكون مصلحة المنطقة ككل في الاعتبار، يكون أكثر دقة في الرؤية. فالممارس للسياسة والداخل في جحيمها، غالباً ما تكون على عينيه غشاوة من مصلحة آنية يريد تحقيقها، أو عقيدة سياسية تأسر عقله من الداخل، أو فئوية معينة تشكل عائقاً أمام الرؤية السليمة. كل دولة، مهما كانت سياستها ومهما كانت عقيدتها، لا يهمها في النهاية إلا مصلحتها وأمنها واستقرارها، ولسان حالها يقول: إذا مت ظمأناً فلا نزل القطر. إيران مثلها مثل سوريا مثل أميركا شعارها الحقيقي هو نفسي نفسي، مهما كان مرفوعاً من شعارات براقة أخرى، وليكن هذا هو الحال في العراق ولبنان إذا أُريد للعراق أن يبقى، وإذا أُريد للبنان أن يبقى. في ظل هذا العنف في العراق، وفي ظل هذا التوتر والتصعيد في لبنان، لا نطلب من لوردات الحرب والصراع في البلدين إلا أن يسألوا أنفسهم سؤالاً بسيطاً، قد يكون هو المفتاح السحري لكل شيء: ثم ماذا؟ سؤال بسيط، ولكن في إجابته تكمن كل إجابة.