الوضع الفلسطيني : أزمات ثلاث

TT

يعيش الوضع الفلسطيني ثلاث أزمات. أولى الأزمات وأخطرها هي أزمة الاحتلال الإسرائيلي، وأزمة المجزرة الإسرائيلية المفتوحة، حيث القتل سياسة يومية، وحيث تهديم البيوت روتين عسكري، وحيث الاعتقالات بالجملة عمل دؤوب ومنتظم. وقد صمت العالم طويلا عن هذه المجزرة المفتوحة، إلى أن بدأنا نسمع مؤخرا دعوات لإطلاق مبادرة دولية جديدة (إسبانيا، ايطاليا، فرنسا) تحيي التفاوض من أجل إيجاد حل لمشكلة طالت وتعقدت. وبدأنا نسمع أيضا دعوات لإرسال قوات دولية تحمي الفلسطينيين من العسف الإسرائيلي، وتحمي الإسرائيليين من عمليات المقاومة الفلسطينية للاحتلال ..!. أما في الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، اللتين ترفضان اي حديث عن أدوار دولية أخرى، سواء عبر المبادرات أو عبر عقد مؤتمر دولي، أو عبر إرسال قوات دولية، فيجري البحث بحياء وخجل عن ضرورة إطلاق مبادرات سياسية جديدة، أو تنشيط الاتصالات واللقاءات من أجل رفع العتب فحسب. وبالرغم من كل هذا النشاط، فإن الأمور لم تخرج عن إطار الاقتراح، أو رفض الاقتراح، وتبقى المجزرة الإسرائيلية المفتوحة هي الثابت الوحيد. ويشيع في الأوساط الإعلامية، أن هدف هذا الحراك العالمي هو وقف إطلاق صواريخ القسام من قطاع غزة على المستوطنات الإسرائيلية، أو منع حركة حماس من التزود بأسلحة متطورة عبر الحدود مع سيناء. ولكن من يتابع المجزرة الإسرائيلية يجد أنها شاملة ولا تقتصر على قطاع غزة. فهناك قتل وتدمير بيوت واعتقالات تجري يوميا في الضفة الغربية، وأحيانا بوتيرة تزيد عما يجري في قطاع غزة. كما أن عملية الاستيطان وسلب الأراضي تتواصل في الضفة الغربية وحول مدينة القدس، وبطريقة قادرة على تعطيل أي تفاوض قبل أن يبدأ. ومن غير الممكن، بل ومن العبث الحديث عن الأزمات الفلسطينية الأخرى، من دون التأكيد على أنها تنبع وتتأثر بأزمة الاحتلال الإسرائيلي هذه.

الأزمة الثانية التي يعيشها الوضع الفلسطيني، هي أزمة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، وما يحيط بها من حصار عالمي قاس وظالم ولا مثيل له في التجارب السياسية المعاصرة. يتابع المواطن العربي تفاصيل المفاوضات الجارية حول الحكومة فيكاد أن يصاب باليأس. فهو لا يستطيع أن يفهم كيف يواجه الفلسطينيون مأساة الاحتلال وجرائمه، وهم يتجادلون ويختلفون ولا يتفقون حول قضايا الحكومة المنشودة هذه. يقرأ المواطن الفلسطيني في الصحف أن المفاوضات تدور حول برنامج الحكومة، وحول اسم رئيس الوزراء، وحول نسب توزيع الحقائب، وحول كيفية توزع الحقائب، وحول حصص كل فريق في السفارات والمحافظات، وحول بدء الحوار حول إعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية. وحين يقرأ المواطن العربي عن الخلافات الفلسطينية حول هذه التفاصيل فإن من حقه أن يغضب وأن يعلن أنه لا يفهم، ذلك أن الحقيقة غائبة في هذه المسألة ولا أحد يريد الاعتراف بها، ولا أحد يريد الذهاب نحوها مباشرة لمناقشتها والبحث فيها.

نعم.. إن النقاش الفلسطيني يدور حول التفاصيل التي أشرنا إليها، بينما الموضوع الذي يجب أن يناقش، ليسهل الإجابة على كل الأسئلة العالقة، هو: المشروع الوطني الفلسطيني. فالخلاف الناشب بين حركتي فتح وحماس، ليس في جوهره خلافا حول هذه الأمور التفصيلية، بل هو في العمق والجوهر خلاف حول المشروع الوطني الفلسطيني، ولكن لا أحد يريد طرح الموضوع على الطاولة لمناقشته، ويتم الهرب نحو التفاصيل، وتدور التفاصيل في حلقة مفرغة لأن الاتفاق حولها لا يستطيع أن يجيب على السؤال المخفي والغائب: ما هو المشروع الوطني الفلسطيني الذي نتبناه؟ حركة فتح لا تزال تعتبر أن اتفاق اوسلو هو المشروع الوطني الفلسطيني لأنه هو الذي سيقود نحو إنشاء الدولة الفلسطينية. وحركة حماس تعتبر أن اتفاق اوسلو فشل وأن ما يعيشه الفلسطينيون من معاناة هو اتفاق اوسلو الموضوع قيد التطبيق. ويرون أيضا أن إسرائيل لا تريد إنشاء دولة فلسطينية، وتريد الاستيلاء على القدس وعلى نصف الضفة الغربية، وأن أقصى ما ستسمح به عمليا هو «تقاسم وظيفي» داخل ما يتبقى للفلسطينيين من أرض. ولحماس بالطبع مشروعها الوطني الفلسطيني البديل الذي يرفض الاعتراف بإسرائيل. وهي تعتبر أن الواقعية كما تفهمها هي في قبول إنشاء دولة فلسطينية في حدود 1967 كاملة ومن دون مستوطنات، وبحسب قاعدة هدنة طويلة الأجل لايقل مداها عن عشر سنوات.

وحين يكون لحركة فتح مشروعها الوطني المنطلق من إمكان تطبيق اتفاق اوسلو. وحين يكون لحركة حماس مشروعها الوطني الذي يعتبر أن اتفاق اوسلو قد فشل في التطبيق بسبب رفض إسرائيل الفعلي له، لا يعود من الممكن أن تتفاوض الحركتان حول إنشاء حكومة وحدة وطنية، إلا إذا طرحتا موضوع الخلاف الأصلي للنقاش. وحين لا تفعل الحركتان ذلك، فإن الحوار بينهما ينجر نحو التفاصيل، إذ يسعى كل طرف نحو أن يبقى ممسكا بقواعد اللعبة، حتى لا يضيع برنامجه، وحتى لا يسود برنامج الطرف الآخر.

وبسبب غياب النقاش حول الموضوع الأصلي والحقيقي، فإننا نجد أنفسنا أحيانا أمام مواقف لا نستطيع أن نفهمها. مثلا يعلن الطرفان أنهما اتفقا على أن وثيقة الوفاق الوطني (وثيقة الأسرى المعدلة) هي أساس البرنامج السياسي للحكومة. ويظن المتتبعون أن عقبة أساسية أزيحت من الطريق، ولكننا ما نلبث أن نقرأ أن الأمر يحتاج إلى توضيح وتحديد، وأن التوضيح والتحديد سيتم من خلال كتاب تكليف رئيس الوزراء الجديد، وسيتضمن كتاب التكليف النقاط الأساسية التي يدعو إليها الرئيس محمود عباس، والتي وردت في خطاب التكليف الماضي لرئيس الوزراء اسماعيل هنية، ولم يأخذ بها. وهكذا تعود بنا الأمور إلى نقطة الصفر. ومثل آخر يرد فيه أن حكومة الوحدة الوطنية ستكون تنفيذية فقط، وأن شؤون السياسة والتفاوض سيتولاها الرئيس محمود عباس باعتباره رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي المخولة وحدها بالتفاوض. يقرأ المتتبعون ذلك ويظنون أن عقبة أساسية ثانية قد أزيحت من الطريق، وهنا تطلب حماس أن يبدأ الحوار المتفق عليه في القاهرة حول إحياء منظمة التحرير الفلسطينية لكي يصبح حماس جزءا منها، فيعتبر البعض أن حماس تضع العراقيل في وجه الاتفاق، وهكذا تعود بنا الأمور إلى نقطة الصفر. ومن أجل هذا كله نقول إنه لكي ينشأ اتفاق فلسطيني حقيقي فلا بد أن يطرح الموضوع الأساسي والجوهري على طاولة النقاش، موضوع إحياء وتجديد المشروع الوطني الفلسطيني على ضوء اتفاق اوسلو وما آلت إليه، وإلا فإن مزيدا من الخلافات الفلسطينية ستظهر وتكبر في الفترة القادمة. وطبيعي القول هنا إن هذه الأزمة تتصل اتصالا وثيقا بالاحتلال الإسرائيلي ومجازره المفتوحة.

الأزمة الفلسطينية الثالثة هي الأزمة التي تعيشها حركة فتح، وتنعكس آثارها على الوضع الفلسطيني برمته. والأزمة التي نعنيها هنا هي ما يتعلق بالجيل الجديد الناشئ في حركة فتح، والذي يطالب لنفسه بموقع في مراكز صنع القرار. ونقول من حيث المبدأ أن هذا الجيل يمتلك الحق كل الحق في ما يطالب به، ومن واجب القيادة التاريخية أن تضع الأسس التنظيمية التي تفسح الطريق أمام هذا الجيل لكي يعبر عن نفسه، ولكي يمتلك فرصته القيادية. ولكننا لا نستطيع أن نتجاهل ضرورة التنبيه إلى خطرين أساسيين وقع بهما بعض الناطقين البارزين باسم هذا الجيل، ولا بد لهم من ممارسة نقد ذاتي مبكر للتخلص منهما:

الخطر الأول: هو مفاهيم تم طرحها لتبرير مطالبهم، مفاهيم جاءت لتشق الصفوف، وتعزز الانقسام، ونعني بها مفاهيم: الداخل والخارج، وصراع الأجيال، وكبر سن القيادة. وهي مفاهيم تقود إلى قسمة التنظيم وقسمة الشعب، وتقود إلى إدانة القيادة التاريخية التي يتغنون هم بإنجازاتها.

الخطر الثاني: هو استنكاف العناصر البارزة في هذا الفريق عن شرح مواقفهم السياسية من القضايا التي ينشغل بها الوضع الفلسطيني. ويتم هذا الصمت عبر ممارسات مرفوضة سياسيا وشعبيا من نوع (اتفاق جنيف)، ووسط جو من الشكوك التي تتهم عناصر بارزة من هذا الجيل أنها ضالعة في مخطط تخريبي، وأنها تتعمد نشر حالة من الفوضى تمهد لانقلاب داخلي تستولي فيه على حركة فتح وعلى السلطة. وليس مثل الموقف السياسي الواضح من وسيلة لإزالة هذه الشكوك، والقيام بعمل تنظيمي أو سياسي مشروع.

ومرة أخرى، فإن هذا الخلاف لا يمكن عزله عن واقع الاحتلال الإسرائيلي ومذابحه المفتوحة.