ديمقراطيو أميركا وديموقراطيونا: آفاق النصر والهزيمة !

TT

نظر الكثيرون إلى دعوات الإدارة الجمهورية التي تصاعدت إثر أحداث 11 إيلول 2001 الى دمقرطة الشرق الاوسط كبداية لموجة ثانية في التحول نحو نظم اكثر ليبرالية بعد انكفاء الموجة الاولى بنهاية الانظمة الملكية الدستورية (على ما فيها من عيوب كثيرة) ومجيء العسكرتاريا الى السلطة في مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن، وذهب البعض الى ادراج التدخل العسكري الامريكي في المنطقة ضمن استراتيجية متعددة الأبعاد لدعم التوجه الديمقراطي وإجبار الأنظمة الشرق أوسطية على تغيير نفسها واحيانا تغيير هذه الانظمة بالقوة ، وبالطبع فان هذا التصور رغم ما لحقه من تشوش خلق استقطاباته الخاصة، كما أنتج سلوكيات مقاومة للتغيير واخرى متناغمة معه وربما متحايلة عليه.

لقد أحدث الاحتلال الامريكي للعراق هزة استراتيجية افترض الكثيرون ان هزة مفاهيمية ستتبعها، وان التغيير لم يعد خيارا بل مسألة وقت، وبدا عزم اليمين الامريكي على عدم المساومة والذي وصل ذروته في التعبير الصريح الذي استخدمته كونداليزا رايس حين تحدثت عن «فوضى بناءة» قد تكون مقبولة قبل ظهور نظام جديد في المنطقة ، بدا هذا العزم عنصر إضعاف لا عنصر قوة في مشروع التغيير لأنه أنتج ممانعة قوية اتحدت فيها النظم الشرق أوسطية على اختلاف اتجاهاتها ورغم إرثها التصارعي الذي لم يمنع تكاتفا صريحا احيانا وضمنيا غالبا، ضد التثوير الذي تسعى إدارة بوش إلى إحداثه في المنطقة.

لقد استتبعت «المؤامرة» الأمريكية في الشرق الاوسط «مؤامرة» شرق أوسطية ضد المشروع الامريكي، وتم القيام بكل ما من شأنه جعل حياة الامريكيين المتطفلين على هذه البقعة العالمية الفريدة صعبة ومكلفة. والى ذلك فهمت النظم العربية ومعها ايران رسالة الجمهوريين بطريقة سلبية وتصرفت معها وفق نفس المنطق، فيما لم يمنعها ذلك من ان تتخذ هذا الموقف لادراج بعضها ضمن الحلفاء الاقليميين للأمريكين، ذلك ان التحدي الذي أظهرته الادارة كان تحديا وجوديا بالنسبة لأنظمة اعتادت ان تجعل لوجودها وبقائها الاولوية الوطنية «العليا». واليوم تبدو معظم أنظمة المنطقة مرتاحة لما تعتبره نصرا «استراتيجيا» في صراع الإرادات غير المعلن على التغيير وحجمه في المنطقة، ولا ينفع ادارة بوش ان تسمي أي تغييرات جديدة في العراق او في سياستها الشرق اوسطية بالتكتيكية، اذ ان فكرة الحاجة للتغيير وحدها كافية لتؤشر استعدادا للانكفاء لا لمزيد من الانغماس. وتغير الخطاب الامريكي من الحديث عن دمقرطة العراق الى الحديث عن اولوية استقراره بعد ان صارت هذه الاولوية في موضع التساؤل انما يعبر ايضا عن اقرار بتراجع في الأولويات وانخفاض في مستوى المطالب التي تبناها الامريكيون عشية زهوهم بالنصر السريع على صدام حسين .

ويدرك المتخصصون في السياسة الخارجية الامريكية ان هذه السياسة خضعت الى نوع من التناوب بين الاتجاه الانعزالي الذي يدعو الى ان تنأى الولايات المتحدة بنفسها بعيدا عن الانغماس في القضايا الدولية، والاتجاه الانفتاحي ـ التدخلي الذي يدعو الى دور امريكي فاعل في تلك القضايا، واصبح هذا التناوب بين الاتجاهين في توجيه هذه السياسة يعرف بنظرية «الدورية»، وقد كان الرئيس كلينتون من أصحاب الرؤية الأقل حماسا في ما يتعلق بالسياسة الخارجية والانغماس الدولي من خلال الدعوة الى «ان تحدد الولايات المتحدة مدى التزاماتها الخارجية وان تتناسب هذه الالتزامات مع الموارد المحدودة المتاحة». وخلال ثماني سنوات لم يبد كلينتون رغبة بالتدخل العسكري «في عصر انفراد امريكا بالزعامة» الا تحت الحاح تهديد انساني كبير «حالات البوسنة وكوسوفو». واذا استخدمنا تعبير بول كندي فان «ما تفعله امريكا وما لا تفعله له آثار عالمية» وربما تكون كلفة عدم الفعل بالنسبة للآخرين اكبر من كلفة الفعل نفسه.

لقد ظهر مفهوم الانعزاليين الجدد متناغما مع مفهوم المحافظين الجدد، وليس بالضرورة منافسا له، فالمحافظون الجدد لا يتبنون رؤية انغماسية في القضايا الدولية إلا من زاوية ايديولوجية، فما فعلوه هو مزيد من الأدلجة للفعل السياسي الخارجي يجد جذوره القديمة في الطرح الويلسوني القائل بعدم وجود «تناقض بين القوة والمبادئ»، المشكلة ان هذه الادلجة اخذت تفرض نفسها بقوة على واقع السياسة الامريكية داخل الشرق الاوسط بعد ان كانت هذه المنطقة مجرد ساحة للفعل المنطلق من اعتبارات براغماتية .

وفي الوقت الذي اتجه الامريكيون اكثر نحو السياسات العقائدية في الشرق الاوسط من خلال مقولات «محور الشر، من ليس معنا فهو ضدنا، نشر الرسالة الديمقراطية» اتجهت نظم المنطقة الى سياسات اكثر براغماتية مغلفة بخطاب عقائدي تعبوي استثمر المناخ الاجتماعي غير المواتي للمقولات الامريكية. لقد تم تبسيط فكرة التحول بتناس ساذج لحقائق المنطقة، فالواقع السياسي ـ الاجتماعي لم يعبر بعد عن تحول بنيوي باتجاه تعزيز الرصيد الذي تتمتع به المقولات الديمقراطية واحتلالها الاولوية ولذلك اسباب عديدة من بينها حقيقة ان الاقتصادات العربية هي اقتصادات ريعية، تعد عائدات النفط جسمها الأساسي، مما يمنح سيطرة هائلة للنخب الحاكمة المتحكمة بالموارد وبالتالي بتوزيع الدخول وبتقديم الخدمات في الوقت الذي لا تشكل الضريبة وهي احد أسس العقد الاجتماعي الغربي مصدرا هاما لقوة تلك النخب، وتبدو الزبائنية هي الشكل المجسد للعلاقات الاقتصادية بدل المنافسة الحرة وفق قوانين السوق، وارتباطا بهذه الحقائق لا توجد طبقة وسطى فاعلة اجتماعيا وقادرة بالتالي على الترويج للقيم الوسطية والبراغماتية والاعتدال السياسي. وبالتالي فان الفراغ الفكري يملأ ببساطة بالخطاب الديماغوجي وضعف الدولة او انكفائها في الحالات التي تم تجريبها «لبنان، العراق، فلسطين» ينتهي الى سيطرة التيارات الاصولية ذات الخطاب المعادي للغرب والقيم الغربية والقادر لوحده على تعبئة الجماهير اليائسة في الضواحي الفقيرة ومدن الصفيح خلف النمط الذي تفهمه من الخلاص، وهو ليس الخلاص الذي يروج له اليمين الامريكي بالطبع. ولذلك لجأت نفس النظم العربية عبر قنوات التأثير الإعلامي والدعائي الى خطاب مشابه دون ان تصل في تطرفها الى مستوى الحركات الأصولية المعارضة في إطار سلوك براغماتي يقصد منه الاستمرار بطرح نفسها بديلا وحيدا في ادارة مجتمعات لا تفهم الديمقراطية، وقل لا تريدها، وهي مجتمعات مستعدة ان تسلم زمام الأمر لألد أعداء امريكا والغرب، حتى لو مارست ديمقراطيتها الموعودة بدعم من امريكا والغرب، فضلا عن حقيقة ان فشل مشروع بناء الدولة المرتبط بالفشل في بناء الامة يؤدي بدوره الى اطلاق النزعات تحت القومية والاثنية عندما تلوح فرصة للتعبير عن إرادة الفئات الاجتماعية وهو ما يجعل الديمقراطية نفسها وسيلة لوضع دول المنطقة في موضع التشكيك بجدوى وجودها الجغرافي والسياسي الذي عرفناه بعد مرحلة الاستعمار.

ان النجاح الانتخابي الذي حققه الديمقراطيون في الانتخابات النصفية، أنهى بوضوح حقبة الجنوح الايديولوجي الذي اتسم به سلوك الإدارة الجمهورية في ظل هيمنة المحافظين الجدد، كما ان صعود نجم الجمهوريين التقليديين «البراغماتيين» هو مؤشر آخر على ان سلوك هذه الادارة يتجه للتغيير وان العامين المقبلين لن يشهدا باي حال من الاحوال هيمنة للاتجاه الانفتاحي التدخلي في السياسة الخارجية، وبالتالي فان مشروع الدمقرطة داخل الشرق الأوسط هو اول الضحايا المباشرين، على الاقل لأن انظمة المنطقة ستشعر بارتياح اكبر وقدرة على التنفس خارج المجال الخانق الذي خلقته امريكا في سياساتها الشرق اوسطية خلال الاعوام الستة الماضية، ومن هنا فربما تكون الإصلاحات ذات الطابع المظهري اخر التنازلات التي قدمتها الانظمة، حتى زمن اخر. وهذا درس جديد يؤكد حقيقة ان الضغوط الخارجية بمفردها لا يمكن ان تنتج تحولا ديمقراطيا ما لم يصحبها او قل يسبقها تحول في البنى الاجتماعية الداخلية وفي الأنماط الاقتصادية السائدة كما في المقولات «السردية» الرائجة، وبالتأكيد فان مجتمعات ما زالت تزدهر فيها الصراعات الطائفية والاثنية بأشكالها التي سادت أوروبا قبل ظهور الدولة القومية الحديثة، ويتعالى فيها الخطاب المعتنق لمنطق الفسطاطين ليست جاهزة لنظام ديمقراطي حقيقي يقوم على التصافق والمساحات الوسطى والصراع داخل النظام.