وهم الاستناد على القوّة في فرض مكانة التفوّق الأميركي

TT

لسعة البعوضة لا تسقط فيلاً، لكنها تزعجه، وقد يتحول الانزعاج إذا ما تكرر من أسراب البعوض الجائع إلى ثورة غضب ودوران ثم سقوط. قد ينطبق هذا المثال التبسيطي على حالة الوخزات العابرة التي أصابت النشوة الأميركية بمكانتها العالمية، بفشل الدولة الأولى في الحفاظ على مقعديها في لجنتي حقوق الإنسان ومكافحة المخدرات، وهما ميدانان حيويان ظلت الولايات المتحدة طوال عقود طويلة تجد نفسها فيهما في موقع الريادة والتبشير والإرشاد العالمي. ولعل هذا الحدث ينظر إليه بعيون متعددة أميركية من داخل مؤسسات القرار الأميركي، متفاوتة الآراء والاجتهادات في منظور الهيمنة بين عدم الاكتراث بالآخرين والاستمرار في التمسك بمنهج التعالي السياسي، أو التحفز العاطفي الأميركي المعروف بانتقام «الكاوبوي الساذج»، ومعاقبة من يحاول الخروج عن الطاعة الأبوية.

وقد اعترف وزير الخارجية الأميركي كولن باول في تصريح له بتاريخ 2001/5/10، تعقيباً على إخراج بلده من مقعدي حقوق الإنسان ومكافحة المخدرات في الأمم المتحدة بالقول «ان نتيجة التصويت تعكس حقيقة اننا أرقنا بعض الدماء في التصويت على قضايا تتعلق بالفلسطينيين وكوريا والصين، وان عدداً من الدول كانت تتحين لحظة الانتقام». وتوالت اعترافات العديد من المسؤولين الأميركان للتدليل على الخلل الجوهري بين المكانة والسلوك السياسي. فقد قال هارولد هونج جوكوه، مساعد وزير الخارجية لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان في عهد كلينتون في مقالة صحافية بتاريخ 2001/5/10 «من الواضح ان العالم كان بذلك يحاول تلقين الولايات المتحدة درساً مهماً، ولكن هل يتعلم الأميركيون الدرس المقصود؟». ويثبّت «جين كيركباتريك» رئيس بعثة أميركا في الأمم المتحدة في عهد الرئيس رونالد ريغان ذلك القول إن «سبب التصويت ضدّ الولايات المتحدة هو بسبب معارضتها للقرارات التي تدين سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين». وكلّ هذه الآراء والاجتهادات لا تخرج عن وضع القوة في خدمة المكانة والمحافظة عليها.. وعيون أوروبية التي تشكل الحليف السياسي والعسكري، لكنها ليست الحليف المطلق الباحث عن «الدستور الأخلاقي العالمي» والذي لم تتم صياغته بعد بسبب المسافة التي تتوسع في حالات وتضيق في حالات أخرى بين سياسات الولايات المتحدة وبلدان أوروبا في تحديد مفهوم الهوية السياسية والثقافية الذي تحاول أميركا فرضه على أوروبا بصورة قسرية.. وعيون القطاع الإنساني الواسع الذي يضم كتلة بلدان العالم الثالث ومن بينها العرب والتي تعيش تحت مؤثرات عقد كثيرة في نظرتها إلى الولايات المتحدة، كعقدة الحجوم الكبيرة والصغيرة، أو عقدة الخوف من القوة، أو عقدة الانبهار تجاه العلم والمعرفة والشعور بأن أميركا هي وحدها التي تمتلك مفاتيحه بسبب تسويقه بواسطة المؤسسات الأميركية الناقلة، وعقدة العدوانية النابعة من الانغلاق القبلي وقتامة صورة المستقبل. أما عيون التنّين الصيني، فهي تسعى إلى التقاط مواقع الزلل في المكانة الأميركية، وتختزنها لصالح مشروعها العالمي الهادئ في ضرورة إحداث تحوّل في مفهوم العالمية قائم على المشاركة الواسعة في المسؤولية الإنسانية.

ولعل هناك خيطاً واضحاً يجمع بين مختلف النظرات لا يفسر الفعاليات الأميركية الخارجية على أنها وحدها قادرة على التأثير في مسيرة الإنسانية، وإن ما تتركه من ردود أفعال عند المجموعات اجية ية، التي تنتمي إلى مكونات سياسية وثقافية مختلفة وذات مراتب عديدة بين دول كبرى لها دورها التاريخي المؤثر في صناعة إنتاج الحاضر الإنساني، ودول مساهمة ومشاركة بهذه الفعاليات، وكيانات حكمت عليها ظروفها التاريخية والطبيعية بأن تكون متلقية وغير فاعلة.

قد لا يجد أي مفكر أو سياسي أو جهة أو دولة في العالم مبرراً تاريخياً واحداً يضعها كدليل مُعترض على ما وصلت إليه الولايات المتحدة الأميركية من مكانتها الحالية، وهي مكانة اكتسبتها بمشروعية حضارية كونها ذات إمكانيات مادية ومعنوية تاريخية حتمية كمركز للرأسمالية المنتصرة، وكقاعدة للرأسمالية الجديدة.. تمتلك حالياً ليس بالقوة العسكرية وإنما بقوّة رأس المال، مكانة المركز الحضاري العالمي، فهي تهيمن حالياً على حركة وتوجيه المعرفة والتعليم العالمي، فهناك ما يقارب 750 ألف طالب أجنبي يدرسون في الجامعات والمعاهد الأميركية، وهناك نسبة %80 من البث العالمي ونقل المعلومات يخرج من أميركا، وإن نسبة %50 من الأفلام المشاهدة عالمياً تنتج في أميركا، إضافة إلى الهيمنة على الأقمار الصناعية الناقلة للفضائيات التلفزيونية وللاتصالات المدنية والعسكرية. كما أن الفرصة التاريخية التي كانت تنتظرها البشرية هي تلك التعددية الثقافية والاثنية التي تكوّن منها المجتمع الأميركي كخليط إنساني عالمي كان يمكن أن يشكل رسالة جديدة تتميز بالعدالة وبحقوق الإنسان واحترام الثقافات الفرعية كممارسة في السياسة والبرامج وليس كشعارات.

ما حصل في الفعالية السياسية شيء آخر مختلف تماماً عن لغة الشعارات والمبادئ. فقد وقع السياسيون الأميركان في نفس المأزق الذي يقع فيه أي دكتاتور في العالم يجلب النقد والتشنيع، وهو الانقلاب على الشعارات والاهتمام بمركز السلطة والحفاظ عليها حتى وإن أدى ذلك إلى جلد الآخرين. فمركز الأبوّة عندما يبتعد عن قيمه الأخلاقية في الرعاية، يتحوّل إلى جلاد مستبد.. وهذا ما يضع الدكتاتوريات الفرعية في شتات العالم بمأمن لكونها تستمدّ مرجعيتها السياسية من الدكتاتور الكبير المستند إلى القوة. ويقع هذا المركز في حالة من الازدواجية التاريخية بين تكريس حالة الحوار والتراضي والاستماع إلى المظلومين بعقل موضوعي سليم، وبين حالة الإرهاب والتلويح بالقوة أو استخدامها. وهنا يكمن جوهر الأزمة الحالية بين العالم وأميركا: الشرعية التي تستند اليها في سياستها غير العادلة وغير المنصفة في شؤون مهمة في العالم، تتعلق بالحقوق والعدالة وبالحرية التي تشكل مرحلة تجاوزتها بلدان العالم الغربي والأميركي.. قضية التمتع بملكية الإنسان لأرضه ووطنه، وخلاصه من حالة اللجوء والغربة والتشتت. في حالة الشعب الفلسطيني منذ عام 48 ولحدّ الآن، وفي استخدام العقوبات الاقتصادية كعقاب ضد الشعوب في حالة الشعب العراقي، فالأزمة هي في التناقض الصارخ بين متطلبات القيادة العالمية للحضارة في كونها مركزاً لتصدير القيم الأخلاقية السياسية وبين السلوك الانفرادي التعسفي الذي تمثّله السياسة الأميركية في اعتمادها على ذراع القوة لفرض المكانة، وبوسائل الترهيب والضغط أو باستخدام السلاح لتمرير الأهداف الذاتية المصلحية من دون رعاية لمصالح الشعوب وحقوق الإنسان.. وفي الانحياز العملي غير المبرّر للكيان الإسرائيلي وتشجيع قادته على الاستمرار باحتلال الأرض الفلسطينية ودعم عدوانه المسلح على الرغم من أن المصلحة الأميركية تقول بضرورة رعاية العلاقة بينها وبين العرب لكونهم مصدراً مهماً لاستمرارية أمنها الاقتصادي، في حين تشكل إسرائيل مصدراً مقلقاً ومزعزعاً لذلك الأمن.

وإذا كان لذراع القوة من دور معروف في فرض الاعتراف بالمكانة، لكنه محدود الفعالية بزمنه وظرفه، فالأمن والاستقرار العالمي يكشفان هزالة هذا العنصر، ويقود التمسك به إلى خلق الأعداء الوهميين في مناطق خارجية عديدة، وقد تنسحب إلى داخل المحيط الأميركي ذاته، وهو ما تنفذه السياسة الأميركية الحالية في ممارسات عديدة تحت عنوان «المحافظة على الأمن الأميركي من خطر الإرهاب»، حيث شكّل الرئيس بوش لجنة قومية برئاسة النائب ديك تشيني لوضع السبل لمواجهة الأخطار الخارجية، والتفسيرات الساذجة لدوافع إنشاء درع الصواريخ. وهذا ما يتناقض مع الشعور بالاطمئنان لمكانة «التفوّق الأميركي» الذي يقول عنه برجنسكي بأنه واقع ووهم. فرعاة العدالة والحق والمساواة العالمية لا تتملكهم مشاعر الخوف ولا يلجأون إلى سياسة ردّ الفعل الانفعالي تجاه ما يقترفه المظلومون والفقراء والمحتلة أراضيهم من أفعال كتعبير عن الرفض، اضافة إلى أن حقيقة «الإرهاب» صنعته المؤسسات الأميركية في مناطق عديدة من العالم، وتحوّل في النهاية إلى عدو لها، من يمتلك مكانة الموقع الأول في الدائرة السياسية العالمية يسعى للبحث عن عناصر الخلل في العلاقات الإنسانية، ويستمع إلى شكاوى المقهورين، ويشارك حلفاءه في البحث عن مخارج أمينة للأزمات. لقد شعرت أوروبا وهي ليست عدوّة للولايات المتحدة بأن الإفراط الأميركي في الاستناد إلى عنصر القوة للحفاظ على الهيمنة يعرض العالم إلى مخاطر خلق الأزمات واحتمالات العودة إلى مناخ استقطابات جديدة تثير فوضى الاعتماد على عناصر التوتر وهي «السلاح»، خصوصاً بعد أن كشفت سياسة (بوش) الحالية عن إصرار على تنفيذ برنامج «الردع الصاروخي». ولهذا فمن غرس «الوخزة» في جسم الفيل الأميركي هو الحليف والشريك الأوروبي، وليس العرب الذين يتعرّضون إلى تخريب متعمّد وإهانة يومية في قضيتهم الكبيرة فلسطين.. لأن الأوروبيين يبحثون عن صياغة حضارية متوازنة للهوية السياسية لدولهم تتعارض مع منهج القوة الذي جربوه قروناً عديدة وهجروه حينما انسحبوا من مواقع امبراطورياتهم البريطانية والفرنسية والإسبانية المترامية الأطراف في الهند وآسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية، ودخلوا عصر الاندماج والتفاعل الحضاري الإنساني.. فالاستئثار بمكانة القوة يقود إلى العزلة عن الوسط الإنساني الكبير، وحين يفتقد من يجلس في الموقع الأول دور المحفّز للقيم، فإنه يفقد أهم ميزة من ميزات السيطرة.. قد لا يسقط في اللحظة، لكنه مؤشر على الانحدار.. والمثال العربي في التاريخ الحضاري يقول بأن سقوط الدولة العربية الإسلامية لم يتحقق حينما دكّت سنابك خيول «هولاكو» بغداد، وإنما حينما دبّ الانحلال والابتعاد عن قيم العروبة والإسلام في جسم قيادة السلطة العباسية.. وقد أخطأ الفيلسوف الأميركي فوكوياما في تقريره حول نهاية التاريخ بأنه «ليس هناك برابرة حقيقيون على الأبواب» وفي استعارته لمعلّمه «ميكافيلي» (بأن على الدول الصالحة أن تقتدي بالدول الشريرة إن هي ارادت البقاء على قيد الحياة والحفاظ على كيانها الدولي) لأن ذلك يلغي «الحكمة» كمرشد أخلاقي في امتلاك القوة ويعرض البشرية إلى مخاطر الفوضى.

[email protected]