سنوات الإنقاذ في السودان... مشاهدات وملاحظات (الحلقة الأخيرة) ــ 120 ألف طالب جامعي في السودان يواجهون أوضاعا معيشية صعبة تدفع الكثيرين إلى ترك الدراسة

TT

* 57% من الشباب يعطون الأولوية في طموحاتهم للهجرة إلى الخارج

* إعلانات الصحف تعكس تنامي ظاهرة الطلاق بسبب الإعسار وغياب الأزواج الخرطوم: من السر سيد أحمد علقت السيدة قائلة: «اصبحنا مثل الخواجات، لكل واحد مفتاحه الخاص بالبيت واحيانا كثيرة يلتقي افراد الاسرة عند الباب، هذا خارج وهذا داخل». الزوج يعمل عميدا لكلية في احدى الجامعات، كما يقوم بالتدريس في مؤسسات اخرى، اولادهم الثلاثة في مراحل تعليمية مختلفة، اما الزوجة صاحبة الشكوى، فالى جانب وظيفتها الحكومية، تتلقى دروسا في الكومبيوتر، كما تقوم بتحضير رسالة ماجستير.

في احد مقاهي الانترنت، التي بدأت تنتشر في الخرطوم، يأتي احد المشرفين الى العمل حوالي السابعة مساء ويستمر حتى صباح اليوم التالي، حيث يفتح المقهى الى وقت متاخر من الليل، وينام هناك وفي الصباح يواصل دراسته في علوم المكتبات. مقاهي الانترنت، التي تنتشر في ضاحية الرياض، الطائف على وجه الخصوص تستقبل اعدادا من الشباب وتحديدا من الذين يتراسلون بالبريد الالكتروني او يقومون باجراء مكالمات دولية مجانية عبر الشبكة. استخدام الساعة في الانترنت الذي كان يكلف خمسة الى ستة آلاف جنيه تراجع في الآونة الاخيرة الى اربعة آلاف (اقل من دولارين)، وهذا الرقم يتجاوز قدرات الكثيرين، ممن لهم اولويات مختلفة لانفاق اي اموال يحصلون عليها.

واذا كانت النماذج السابقة تشير الى وجود رغبة عارمة في التعليم والتواصل مع العالم الخارجي وان لها قدرة على المضي قدما فيه، مع دفع ثمن ما، فان الغالبية العظمى من طلاب الجامعات تعيش حالة من المعاناة الحقيقية. ففي احد المسوحات، التي تعطي اشارات عن الواقع رغم قصورها، فإن الدعم الرسمي، وذلك الذي يأتي من الاقارب، لا يغطيان 50 في المائة من احتياجات 120 الف طالب جامعي، التي قدرت بنحو 40 ـ 50 الف جنيه شهريا (حوالي 20 دولارا)، الامر الذي دفع بالكثيرين الى ترك الدراسة. وفي مسح عن الطالبات الجامعيات فإن 12 في المائة تركن الدراسة لاسباب اقتصادية، وتعتمد بعض الطالبات على بيع ملابسهن والهدايا لتامين مصروفات الاعاشة، وتعاني 10 في المائة من سوء التغذية، كما اندفع البعض نحو الانحراف الخلقي.

نجاح مادي.. فشل روحي رغم نجاح الانقاذ في تحقيق انجازات واضحة في مجالات مثل استخراج وتصدير البترول، الاتصالات والطرق، الا انها تبقى انجازات مادية، بينما فكرة المشروع الحضاري انه يقوم على انجازات روحية. كذلك لم تحقق الانقاذ نهضة اجتماعية عامة كما يتضح في تدني الاجور، وضعف القدرة الشرائية التي لم تستفد من وفرة السلع، وانفجار امراض الملاريا والسل مرة اخرى. ولهذا يؤخذ على مشروع الانقاذ غياب الجانب الاجتماعي فيه، وهي نتيجة تتناقض مع الخطة العشرية التي وضعها النظام لنفسه بان يتحول السودان الى دولة كبرى، وهي الاستراتيجية التي كتب مقدمتها الدكتور حسن الترابي نفسه ـ عراب النظام ومرجعه في عقده الاول، ليصبح السودان في بدء الالفية الجديدة من خير المجتمعات النامية سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا ودستوريا، بينما الواقع الفعلي يرسم صورة مختلفة. وتضيف دراسة ميدانية ان الاستطلاع بين الشباب المثقف يعطي الاولوية للهجرة الى خارج السودان بنسبة 57 في المائة، كما يعتقد 8، 48 في المائة ان الوضع الاقتصادي هو المشكلة الرئيسية التي تواجههم، ولهذا السبب فان 5، 56 في المائة من العينة التي تم استطلاعها لا تعرف متى يمكن ان تتزوج و 5، 12 في المائة يرون احتمال زواجهم في غضون خمس سنوات. ومع الثقل الذي اعطي للمشكلة الاقتصادية، الا ان كثيرين يشيرون الى ان السودانيين لم يعيشوا عبء هذه المشكلة على حقيقته بسبب المساندة التي يتلقونها من المغتربين في الخارج، الامر الذي يجعل الكثيرين يعيشون فوق مستوى دخولهم الحقيقية.

هذه الاشارات رغم تعدد مصادرها وعدم شموليتها تعطي مؤشرا لحالة الشباب في السودان، او المستقبل في السودان. فالسودان بلد شاب. ومن جملة 5، 28 مليون قدرهم مركز الامم المتحدة للسكان عام 1995، فان 6، 11 مليون من السكان تتراوح اعمارهم بين 15 ـ 29 عاما، كما ان نسبة النمو السكاني وهي في حدود 6، 2 في المائة تزيد عن معدل النمو الاقتصادي، الامر الذي يؤدي الى حالة من الافقار الدائم. وفاقمت في هذه الحالة عمليات النزوح باتجاه الخرطوم التي ارتفع عدد سكانها من اقل من نصف مليون نسمة عام 1956 عند استقلال السودان، الى اكثر من ثلاثة ملايين نسمة عام 1992، ويقدر البعض عددهم حاليا بقرابة عشرة ملايين نسمة، او اكثر من 10 في المائة من سكان السودان. وفي الوقت الذي تعتبر فيه الخرطوم، النيل الازرق، والقضارف وكسلا من المناطق الجاذبة، فان المناطق الطاردة تتمركز في الشمالية، كردفان ودارفور. ترييف المدن من الناحية الثانية فان معدل النمو لسكان الحضر تراوح في حدود 4 في المائة بين عامي 1983/1993، الامر الذي يشير الى تمركز السكان في المدن الكبرى. فنسبة الذين كانوا يسكنون المدن العشر الكبرى في السودان قفز من 2، 5 في المائة عام 1956 الى 3، 18 في المائة عام 1993. وفي الوقت الذي كانت فيه هناك مدينة واحدة يفوق عدد سكانها 100 الف عام 1956، فان العدد تجاوز العشر مدن في الاحصاء الاخير لعام 1993، الذي اوضح ان عدد سكان الخرطوم الكبرى يساوي تسعة اضعاف عدد السكان المدينة التالية لها وهي بورتسودان. وبعد مرور ثماني سنوات على ذلك الاحصاء، فان الفجوة في اتساع.

ونسبة سكان الخرطوم لعدد السكان الكلي التي كانت 4، 2 في المائة عند اول احصاء سكاني عام 1956، ارتفعت الى 3، 5 في المائة في الاحصاء الثاني عام 1973، ثم الى 2، 6 في المائة بعد ذلك بعشر سنوات والى 7، 11 في المائة في آخر احصاء اجري في العام 1993. ومع ان الارقام تظل مؤشرات فقط على الصورة الحقيقية، الا ان المرء يمكنه تلمس الواقع اذا حاول عبور كوبري النيل الازرق الى الخرطوم بحري او النيل الابيض الى ام درمان. فبسبب ازدحام الحركة اصبحت الكباري تفتح في اتجاه واحد منذ الصباح وحتى منتصف النهار، وليعكس الاتجاه بعد ذلك الى حوالي الخامسة بعد الظهر.

فمنذ النزوح الكبير بسبب جفاف 1983، الذي دفع بعشرات الالوف الى الهجرة التي نمت بسبب اشتعال الحرب الاهلية في الجنوب والغرب، الا أن هذه الموجة ما زالت مستمرة. اسباب الجذب للنزوح الى المدن معروفة وتتراوح بين توفر فرص العمل والتعليم والبنية الاساسية في المدن خاصة الخرطوم وبين انهيار القطاع التقليدي في الميدان الزراعي الذي شكل عماد الحياة الاقتصادية في السودان، لكن الظاهرة تفاقمت في الآونة الاخيرة، بسبب وهن الروابط الاجتماعية من اسرية وقبلية، التي ادت من ناحية الى غياب الرقابة الاجتماعية التي كان يوفرها الريف وكذلك انهيار المؤسسات الاجتماعية التقليدية، وهو ما يظهر في الاعلانات المبوبة المتنامية حول ظاهرة الطلاق بسبب الاعسار وغياب الزوج، وادت من الناحية الثانية الى دفع الاسر لتتكامل مع بعض للبقاء مع الابناء العاملين او الذين يدرسون في الخرطوم بعد بيع المنازل في الاقاليم والاستعاضة عنها باخرى في العاصمة. ولهذا لم تعد الهجرة مقصورة على الفئة العمرية المنتجة بين 15-44 عاما، وانما من ارباب المعاشات كذلك.

هذه التحركات السكانية ادت الى البدء في عملية تحلل كبرى للمجتمع التقليدي القائم على رابطة الدم، ووحدة الانتاج المعيشي المستندة الى الملكية الجماعية للموارد. فمع تسارع الاتجاه نحو اقتصاد السوق، تنامت التحولات الاجتماعية، التي تعبر عن نفسها بعمليات ترييف المدينة والافقار المتواصل، خاصة مع تجاهل سياسات الانقاذ لعمليات التمويل لاحداث تنمية حقيقية. ويعيب الدكتور حسن مكي، وهو احد المفكرين الاسلامويين، على الحركة انها لم تقم بدراسة حول اثر الفقر وسياسات التحرير الاقتصادي على المواطن السوداني.

ولمواجهة هذا الوضع اعتمدت الانقاذ الفيدرالية وسيلة لحكم السودان وتقسيم السلطة والثروة، حيث تم تقسيم السودان الى 26 ولاية لكل ولاية حاكمها او واليها ومجلس وزرائها ومجلسها التشريعي. ويشير بعض المسؤولين الى ان هذا الاسلوب يساعد على تحفيز الناس للبذل وتنمية مناطقهم. ويضيف احد المسؤولين من الذين عملوا في ولاية الجزيرة ان الولاية اصبحت توجد بها اكثر من 360 مدرسة ثانوية من 50 مدرسة فقط عام 1995، كما ان حوالي 400 قرية اصبحت تتمتع بخدمات الكهرباء، التي جاءت في الغالب عن طريق العون الذاتي، لكنه يضيف ان الحكم الفيدرالي يساهم في تعقيد الامور كذلك بسبب رفعه لسقف تطلعات المواطنين التي لا تستطيع الموارد المحلية تلبيتها، ومن هنا تنامى شعور عدم الرضى والالتفات الى خيار الهجرة.

أي فيدرالية؟

على ان البعض الآخر يطرح الامر من وجهة نظر مخالفة، فمع التأمين على سلامة الفكرة الفيدرالية، التي لابناء الجنوب الفضل في طرحها منذ الاستقلال، ولم تتعامل معها القوى السياسية الشمالية بالجدية اللازمة، الا ان الطريقة التي تم تطبيقها بها، وفي غياب الحريات وتقسيم السلطة الحقيقية، جعلت من الفيدرالية وسيلة لكسب المؤيدين، الامر الذي ادى الى تضخم اجهزة الدولة وتوجيه الموارد للصرف على هذه الاجهزة بدلا من ان تتجه الى الخدمات ومشروعات التنمية التي يستفيد منها جمهرة الناس.

ووفقا للمعلومات التي تم جمعها فان القائمة الرسمية للاجهزة الدستورية تضم 44 منصبا من رئيس الجمهورية ونوابه الى الوزراء الاتحاديين، 13 منصبا لمن يشغلون وظائف في درجة وزير مركزي مثل رئيس مجلس الصداقة الشعبية ومسجل التنظيمات السياسية، و31 منصب وزير دولة، و14 بدرجة وزير دولة مثل مستشار الرئيس للمراة والطفولة، و11 منصبا لمجلس تنسيق الولايات الجنوبية، الى جانب 26 واليا لكل وال مجلس وزراء اقليمي يعاونه يتراوح عدد اعضائه بين خمسة الى سبعة وزراء، اي هناك ما يزيد على 300 من كبار المسؤولين في الدولة يتمتعون بكل المزايا التي يتيحها لهم المنصب.

وفوجئت، وان لم استغرب، عندما اوضح لي احد كبار المسؤولين عن الملف الاقتصادي انه ليست لديه معلومة مؤكدة عن حجم الصرف الفعلي والكلي على الحكم الاتحادي اذ ليست هناك ميزانية موحدة لكل الولايات. واذا كان الوضع الاقتصادي قد ادى الى العزوف عن تكوين الاسرة، فهناك عزوف عام عن النشاط السياسي والعمل في سلك الدولة، لمحدودية دخلها. فخريج الجامعة لا يضمن ان يجد له عملا، واذا وجده لن يكفي دخله لتحقيق استقلاله المادي، ناهيك من التفكير في تكوين اسرة، الامر الذي جعل سن الزواج بين الشباب تتراجع الى نحو 35 عاما.

وفي تجربة شخصية وعشوائية طرحت اسماء: الميرغني، المهدي، الترابي، البشير، قرنق ونقد، وهي اسماء لزعامات تمثل مختلف الوان الطيف السياسي السوداني، امام مجموعة من الشباب في العشرينيات من اعمارهم وسألتهم ماذا تعني لهم هذه الاسماء: وكانت خلاصة اجاباتهم انها لا تعني لهم شيئا يمكن ان يساعد في حل القضايا التي تواجههم. في مطلع هذا الشهر جرت انتخابات طلابية في جامعة النيلين شارك فيها 1200 فقط من جملة 30 ألف طالب وطالبة تضمهم الجامعة.

واذا صح التعميم من هذه التجربة المحدودة لأمكن القول ان الحركة السياسية القائمة من حكم ومعارضة تحتاج الى خطاب مختلف كي تتمكن من التفاعل مع هؤلاء الشباب.