من أجل بعض فلسطين... ودفاعا عن النفس

TT

لا يكفي ان تعطي الادارة الاميركية في شخص وزير الخارجية كولن باول الضوء الاخضر لكي يكون تقرير «لجنة ميتشيل» هو ما يمكن الأخذ به من جانب اسرائيل والفلسطينيين كإطار لوقف العنف على نحو ما حرص الوزير الاميركي على توضيحه في المؤتمر الصحافي الذي عقده قبل امس. فالمسألة الأهم في نظر الدول العربية قبل ان تكون الأهم في نظر الفلسطينيين هي ان الحكومة الشارونية نفَّذت على مناطق السلطة الوطنية من «رفح» على الحدود مع مصر الى «بيت جالا» المتاخمة لحدود القدس القديمة عدواناً بالمقاتلات الاميركية «F. 16» الأمر الذي يعني ان دولة مثل مصر او مثل الاردن او مثل سورية وهي ثلاث دول لها في العنق الاميركي جمائل كثيرة يمكن ان تتعرض هي الاخرى في مرحلة لاحقة يتصاعد فيها الجنون الشاروني الى اعتداءات مماثلة وبالطائرات الاميركية. ألم يلوح احد الشارونيين بتدمير السد العالي؟ واذا نحن استبعدنا قليلاً حدوث ذلك على مصر والاردن لأسباب تتعلق بمعاهدات السلام المعقودة بينهما وبين اسرائيل فإن العدوان الشاروني المحتمل على سورية وارد وأن القصف الجوي للمناطق الفلسطينية وبالطائرات الاميركية هو تجربة لما يمكن ان يحدث لسورية في لبنان او ربما داخل سورية نفسها.

وعندما لا تدين الادارة الاميركية عمليات القصف الجوي ومنذ اللحظة الاولى لحدوث هذه العمليات فهذا معناه انها إما مع مبدأ القصف وإما انها عاجزة عن الادانة، وفي الحالتين يبدو الامر وكأنما سيخرج من بين ايديها وأن الذي يحدث للفلسطينيين سيتطور وربما تصل المنطقة الى وقت تدور فيه رحى معارك بالطائرات والاسلحة الاميركية كمرحلة اولى ثم تدخل الاجواء وارض المعركة الطائرات والاسلحة التي مصدرها بريطانيا وفرنسا وروسيا.

وحتى الآن يبدو الموقف الاميركي بعيدا جداً عن الواجب الذي على ادارة الرئيس جورج بوش الإبن ان تقوم به. فالوزير كولن باول تحاشى حتى الطلب من اسرائيل التوقف عن استخدام طائرات F.16 ضد الفلسطينيين. وبدلاً من ان يعلن في المؤتمر الصحافي وبكل الوضوح ان الادارة الاميركية طلبت على الفور من اسرائيل التوقف عن استخدام هذه الطائرات فإنه التف على الأمر الخطير هذا وقال: «طلبنا من الطرفين عدم تصعيد الوضع الى مستويات اعلى والبدء بتقليص العنف...». ومن قبله ببضع ساعات كان ديك تشيني نائب الرئيس الاميركي يقول في مقابلة تلفزيونية رداً على سؤال عما اذا كانت الادارة الاميركية ستتخذ اجراءات خاصة لمنع استخدام طائرات F.16 ضد الفلسطينيين «إن الوضع حساس جداً وإننا في صدد تقييم القرار المحدد الذي اتخذته القوات الاسرائيلية».

وهذه المفردات في التصريحات باتت تعني لأهل القرار العربي انه لا امل يرتجى من الادارة الاميركية وانه بات لا بد من خطوات تجاهها على الاقل بهدف التنبيه والتحذير. ومن هنا جاءت خطوة ولي العهد السعودي الامير عبد الله بن عبد العزيز المتمثلة في عدم الرد على دعوة من الادارة الاميركية لزيارة واشنطن، وهي خطوة افادت كثيراً وإلى درجة انه من الجائز الافتراض انه بسبب هذه الخطوة الشجاعة وجد وزراء خارجية لجنة المتابعة المنبثقة عن القمة العربية الدورية الاولى في عمان انفسهم يتخذون خلال اجتماعهم في القاهرة يوم السبت 19 مايو (ايار) 2001 قرارات تنسجم مع بقايا الكبرياء العربي. ومن هذه القرارات «وقف جميع الاتصالات السياسية العربية مع الحكومة الاسرائيلية طالما استمر العدوان والحصار على الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية» و«التمسك بوقف الاستيطان تماماً ووجوب وقف بناء اي مستوطنات جديدة او توسيع مستوطنات قائمة والعمل على مطالبة جميع الدول بالمقاطعة الكاملة لأية منتجات لهذه المستوطنات تحاول اسرائيل تسويقها» و«دعوة مجلس الامن او الجمعية العامة للامم المتحدة الى عقد اجتماع عاجل لتأمين حماية دولية للمدنيين الفلسطينيين» و«التأييد السياسي والمادي للصمود الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي ودعم انتفاضة الشعب الفلسطيني وتكليف الامين العام بمتابعة وصول الدعم المادي اللازم فوراً الى السلطة الفلسطينية، وفتح باب التبرع الشعبي لدعم الشعب الفلسطيني».

وبسبب الخطوة السعودية الشجاعة التي هي ترجمة لتنبيهات سابقة من بينها قول الامير عبد الله في قمة الأقصى التي عُقدت في القاهرة في اكتوبر (تشرين الاول) الماضي «ان الولايات المتحدة كراعية لعملية السلام تتحمل مسؤولية خاصة في الانهيار الذي تواجهه العملية، ذلك ان معنى الرعوية يقضي من الراعي التأكد من سلامة النهج الذي تسلكه العملية السلمية، ومحاسبة المسؤول عن انحرافها».. بسبب الخطوة السعودية الشجاعة جاء قول ديك تشيني الذي كان محتاراً بين إرضاء اسرائيل واسترضاء الاصدقاء العرب فتغلَّب الإرضاء على الاسترضاء، ثم جاء كلام كولن باول الذي افترض انه بدعم نسبي من الادارة الاميركية للجنة ميتشيل يمكن ان يخفف من خيبة امل الاصدقاء العرب بهذه الادارة. ولكن كما سبق واشرنا في مطلع هذا المقال ان الوقفة الاميركية هي دون المطلوب منها بكثير. فالذي يفعله شارون بالفلسطينيين مستعمِلاً طائرات الاميركية المتطورة ما كان ليجرؤ على فعْلِه لو كانت الادارة الاميركية ليست معه، او ليست ساكتة عنه، او ليست مبررة افعاله، او ليست داعمة له بسلاح الفيتو الشهير في مجلس الامن. واذا كان شارون لن يرتدع ويتوقف عن مداواة خيبته الناشئة عن الاصرار الفلسطيني على مواصلة المقاومة، بتنويع وسائل العدوان يقابل ذلك المزيد من التفهم الاميركي، فهذا معناه انه سينفذ وفي ظل الاجواء الناشئة عن حربه الجوية والبرية والبحرية على كل المناطق الفلسطينية بما في ذلك المراكز الرسمية مخططات شريرة من بينها التهويد الكامل للقدس، ومن هنا قوله يوم الاثنين الماضي بينما كولن باول يدلي بالتصريحات التي سمعناها «ان القدس يجب ان تبقى العاصمة الابدية الموحدة لاسرائيل وعلينا ان نواصل البناء والتنمية في المستوطنات واحتضان المهاجرين».. ومن بين المخططات الشريرة ايضاً بناء «مستوطنة دينية» (اي كنيس) داخل الحرم القدسي وكأنما اقتحامه قبل ثمانية اشهر لباحة الحرم وبسببه بدأت الانتفاضة المتواصلة كان بمثابة استكشاف المكان.

وفي تقديرنا ان الخطوة السعودية الشجاعة من جهة والتوصيات التي خرجت بها لجنة المتابعة في اجتماعها في القاهرة من جهة اخرى ستجعل شرائح من الرأي العام الاميركي تتساءل بينها وبين نفسها: اذا كان اصدقاؤنا وحلفاؤنا باتوا على حالة الضجر هذه من سياستنا فكيف اذن سنحافظ على مصالحنا في المنطقة؟ كما ان الخطوة اذا استمرت على حالها ولم يطرأ عليها تعديل نتيجة مشاورات سياسية، من شأنها ان تشكل إحراجاً للادارة الاميركية من واجبها توظيفه لمصلحة هيبتها بالنسبة الى اصدقائها العرب، وهي هيبة اهتزت كثيراً ويمكن ان تشهد المزيد من الاهتزاز في حال استمر الجنون الاسرائيلي على حاله يقابله انحسار اضطراري في التعقل العربي. وهنا تجدر الاشارة الى ان اصدقاء اميركا وحلفاءها العرب مقتنعون كل الاقتناع بأن العدوان الاسرائيلي حظي بمباركة الادارة الاميركية عندما زار شارون واشنطن طالباً من ادارتها خدمة وحيدة وهي اعطاء حكومته فرصة مئة يوم لكي يضع الامور في اطارها الاسرائيلي الذي ينهي المساجلة الدائرة عربياً وفلسطينياً حول العملية السلمية. ومن الواضح انه حصل على ما طلبه إلا اذا كان اعتقادنا في غير محله، اي بما معناه ان شارون لم يحصل على مبتغاه فعاد ليشعل البيت الفلسطيني ناراً وليضع العلاقة العربية ـ الاميركية في موقع الإحراج الشديد، وعلى اساس ان الموقف الاميركي التقليدي من اسرائيل هو أنه دائماً معها وبالذات عندما تكون معتدية.

يبقى القول ان الموقف العربي الجديد هو نوع من الاختبار لمصداقية الادارة الاميركية التي ما زالت هنالك آمال لدى بعض اصدقائها العرب بأنها ستكون نزيهة. ولقد اثبت هذا الموقف بضع حقائق من بينها ان الخطوة السعودية وتوصيات لجنة المتابعة هي من جهة ترجمة لحالات الغضب الذي يتراكم في الصدور العربية من المحيط الى الخليج، ومن جهة اخرى اختبار لمدى جدوى الضغط العربي على الادارة الاميركية خصوصاً انه يأتي من اصدقاء حريصين اشد الحرص على العلاقة والصداقة. انما ليس اي علاقة وليس اي صداقة. ومن الحقائق ايضاً انه اذا كان الضغط العربي بهذه النسبة التي جاء عليها مراعياً ألاّ تتأثر المصالح فكيف اذا ارتفعت نسبة الضغط وبحيث يلمس الصداقة والمصالح على حد سواء. هذا مع الأخذ في الاعتبار أنه اذا زار ولي العهد السعودي كندا قبل واشنطن فإن الادارة الاميركية تنزعج اما اذا كان سيزور كندا ولن يزور واشنطن فإن الانزعاج سيكون ثقيلاً جداً على نفس ادارة يترأسها جورج بوش الإبن الذي ما زال والده على قيد الحياة، وما زالت ذاكرته قوية لكي يوضح له اهمية ان تكون السعودية ومصر والاردن وسورية الى جانب اميركا، وتبقى الشرعية الفلسطينية ورقة في اليد الاميركية قبل ان تتجمع بقية صقور المجتمع الدولي، وبالذات روسيا والصين وفرنسا وتخطف هذه الورقة. واذا حدث ذلك لن تعود الامم المتحدة في قبضة اليد الاميركية ايضاً أو تحت هيمنتها. وعندئذ ماذا يبقى من عظمة اميركا؟

يبقى القول ايضاً ان الخطوة السعودية وتوصيات لجنة المتابعة ليست فقط من اجل فلسطين التي تزايدت نسبة اختزالها كقضية ومع ذلك يرضى القتيل وليس يرضى القاتل، وإنما هي ايضاً حالة دفاع عن النفس لأن من يفعل ما يفعله بالفلسطينيين ويطمع بفلسطين كلها رافضاً ابقاء بعضها لشعبها الصابر، قد يجنح نحو المزيد من الجنون والغطرسة فيقرر العدوان على كل من يؤازرهم. وتلك صفة الخائف المرفوض من محيطه المسلح باميركا المتصهينة وليست صفة الواثق من نفسه الساعي الى ان يكون مقبولاً. وكيف سيكون مقبولاً وكيف لن يكون خائفاً ولن يكون معتدياً ما دام هو في الاصل اغتصب وطناً ليس له، وإنما هو لآباء وأجداد الذين يعتدي عليهم ليل نهار بالسلاح الاميركي والسكوت المريب من جانب بعض الدول شركاء اميركا في اغتصاب فلسطين قبل 53 عاماً واستبدالها بكيان... هدفه بعثرة العرب وتشريد الفلسطينيين من اجل جمع الشتات اليهودي.