كذبة الفرد موروثة من الأمة وخطابها الرسمي

TT

المغترَب والمنفى والمهجر، وكل ما يمكن ان ينطبق من وصف على العيش خارج البلاد العربية، حمل فرصة للعديد من الاشخاص كي يبنوا تاريخا جديدا يرسمون تفاصيله بخيالهم المتحرر من وطأة المكان القديم. والتاريخ الجديد هنا ليس بمعنى ما هو قادم من ايام، فقط، اي صياغة المرء لمستقبله الخاص بعيدا عن ضغوطات السلطتين الاجتماعية والسياسية، بل بمعنى الاثر الرجعي للزمن، وباعادة تركيب الماضي، هذا الذي يصبح في الامكنة الجديدة مجهولا غائما لدى الاخرين.

هذه الحقيقة كانت فرصة سانحة للبعض كي يقدم تاريخه بصورة مشتهاة، بعد ان اتيحت له فرصة يشرعون بصياغة تاريخ يحققون فيه، وهماّ، احلامهم المجهضة، يختلقون قصة شخصية يزينون بها صورتهم الحاضرة بالامجاد والانجازات التي ليس لها اقدام على ارض الواقع. ولان الغربة مضيّعة للاصول، حسب التعبير الشعبي، ينتشر الكذب عند هذا البعض في صياغة ماضيه الشخصي ومكوناته. كذبٌ في نوعية الشهادات الحاصل عليها والاصول الاجتماعية التي ينتمي اليها، والانجازات التي حققها في موطنه الاصلي او حتى في المهجر، فكم من حامل لشهادة عليا، يتبين جهله العميق، وكم من من مدع انه ابن عائلة عريقة، او ابن عمدة او مختار البلد، يفضح بسلوكه المنبت الكريم! لكن هل الكذب ورسم واقع غير حقيقي، سمة خاصة بأهل المهجر فقط؟

لنحاول ان نسترجع الخطاب الرسمي الذي ننشأ عليه، اكان خطابا تربويا، ام اعلاميا. الم ترهق آذاننا عبارات بعض الحكام تصفنا بـ«الشعب العظيم»، وهي كذبة لان عظمة شعب ما تأتي من كونه حراً غير ذليل، لا شعبا مقيّد الفم واليدين. ثم ان العظمة تأتي من انجازات الحاضر، من بناء مجتمع عصري غير غارق في غفوة الماضي يتعيش على ما تبقى من رغوته. الا يردد الخطاب الرسمي بتجلياته الاعلامية والثقافية اننا علمنا الامم الاخرى الحضارة والعلوم، والقوم ليسوا اكثر من انهم في جهلهم يعمهون! يرتمون في احضان مشاهد من الماضي ويتماهون مع شخصياتها البارزة، مصدقين انهم ما زالوا اعظم الامم. دائما الماضي بحقائقه وتذويقاته حاضر كمستند ودليل دامغ على اصالة الامة، هو البُردة، او المشلح الذي نلقيه على اكتافنا بزهو، ونعيش من بعد على امجاد قماشه الفاخر، ولا نريد من العالم من حولنا سوى الاعتراف به. عالم من الوهم تُبنى اعمدته الهشة بدءا من المناهج التربوية، فلا شعوب في خارطة المنطقة الا الامة العربية، ولا لغة مبجلة غير لغتهم التي يجب ألا يروج سواها في الاعلام والتعليم . مع ان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عندما راسل الاقوام الاخرى، دعا ملوكها وزعماءها للدخول في الدين الاسلامي، ولم يطلب منهم تعلم اللغة العربية، بديلا عن لغاتهم الام التي يفتخرون بها، وهو حقهم، فاللغة اداة التعبير عن دواخل البشر، تراكمت عبر العصور لتصوغ ضمير الامة. وإن اشحنا الوجه عن السياسة والتربية والاعلام، واجهنا خطابا ادبيا يزهو بأن اجمل الشعر اكذبه، وان فحل الشعر العربي، هو ابو الطيب المتنبي، الشاعر الذي اعتمد كثير من مضمون شعره على نفي الآخر، طالما انه لم يعترف به. ومثال هجائه لكافور حاضر، فقد قال عنه: لا تشتري العبد الا والعصا معه/ان العبيد انجاس مناكيد. فكان عنصريا يحقّر كافور بسبب لونه الاسود، وقد ورث عنه العرب صورة سلبية لهذا لرجل الذي حكم مصر وكانت له فيها انجازات مهمة، كما يشير استاذنا الراحل د. شاكر مصطفى في دراسته المعنونة «المظلومون في التاريخ». لقد صدقت الامة الكاذب لسبب لا علاقة له بالحقيقة (انه شاعر بليغ!) وتداولوا معلومة زائفة لم تكن اكثر من بغض شخصي صدر عن شاعر نرجسي عندما زار مصر، لانه لم يحصل على ما يبتغي من مصالح شخصية من الحاكم. ان شخصية المتنبي ـ من دون ان نجادل في موهبته ـ بغرورها الذكوري الفجّ، سائدة لدى العديد ممن نطلق عليهم اليوم صفة المبدعين، مثله هم: كان شاعرا استغل موهبته وروّج لأناه بمبالغة ممجوجة، وهو القائل: انا الذي ينظر الاعمى الى ادبي/ واسمعت كلماتي من به صمم! الفرد في البلاد العربية ينشأ على هذه الصورة، وقد صيغ من خطاب باتجاه واحد لا حوار فيه ولا تعددية، ينتمي الى كل اكبر واقوى، الحكومة، الحزب، النقابة، التجمع المهني، العشيرة او العائلة. وليس كل فرد مهيأ لان يستعيد توازنه ويعيش بشكل طبيعي وعفوي عندما يخرج من الدائرة المغناطيسية للمنطقة ويروح يبحث عن اناه الخاصة، فلا يجد في مرجعيته الذهنية غير المنهج الذي تربى عليه، المفاخرة الفجة، وتزيين الماضي بالفاقع من التفاصيل. يجد نفسه داخل المكان الجديد في عراء لم يعتده، فيضخم الذات باختلاق الجذور. البعض يجيد صناعة الكذبة فتستمر مورقة الى حين، بينما تنكشف رخاوة الارض تحت آخرين بسرعة، ويغدو مثل شجرة هشة الاوراق، تتعرى امام كل هزة. لا اقول ما قلته من باب جلد الذات، او الرغبة في تفكيك الشخصية العربية وتركها مفضوحة على هذا الشكل. انه نقد يبتغي اعادة البناء، وتغيير الجلد المهترئ بآخر اقوى واكثر نضارة. ان احترام امة ما لشخصيتها يقوم على احترام الماضي من دون تقديسه والتحول الى عبيد له، كذلك بناء حاضر يسهم في تاريخ البشرية بالانجازات، لا بالكلمات والشعارات. واحترام امة لافرادها يكون بتسييد فكرة الشفافية والصراحة، لا باعتماد سياسة الكذب، الاداة التي تفيد في تناغم كل ادوات الخطاىا، على حدّ قول المفكر الاميركي اوليفر ويندل هولمز. [email protected]