في انتظار جيمس بيكر الثالث!

TT

كل العالم في انتظار التقرير الذي سوف تتوصل اليه لجنة جيمس بيكر ـ لي هاملتون بخصوص السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. فرغم أن التقرير يخص سياسة الولايات المتحدة ـ ومن ثم يهم أمريكا ـ وأنه يركز على إقليمنا ـ ومن ثم يهم الدول العربية وبقية دول المنطقة المجاورة ـ فإن الدول الأوروبية كلها تترقبه لأنه يخص دولة حليفة ومنطقة قريبة، كما يهم كل الدول الآسيوية لأن التجربة النووية لكوريا الشمالية قامت على أكتاف الواقع في العراق. ورغم كل هذا الاهتمام العالمي فإن أصحابه لا يقومون بأكثر من الترقب والانتظار، وربما توقعوا أن تستمع اللجنة إلى بعض من آرائهم، ومن المرجح أن شخصيات في منطقتنا لها صلات مع وزير الخارجية الأسبق ومع العضو البارز في الكونجرس سوف تحرص على تقديم النصيحة. ولكن النقاش الحقيقي سوف يكون داخل أمريكا نفسها حيث تتصارع الآراء والمصالح والسياسات.

وبداية فإن المجتمع الأمريكي كله يتفق على أن أمرا ما خطيرا قد وقع للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وأن الحالة في هذه المنطقة قد صارت أكثر سوءا عما كانت عليه منذ سنوات مضت. فقد صار الإرهابيون أكثر عددا وقدرة، وقبلهم وحولهم تمددت الأصولية الإسلامية بالسياسة أو بالسلاح لكي تصل إلى السلطة أحيانا كما في فلسطين، أو يكون لها وجود بارز في الساحة السياسية أحيانا أخرى كما هو الحال في مصر، أو تتمدد قوتها العسكرية في ساحة هشة كما هو الحال في الصومال؛ واقتربت إيران من السلاح النووي أكثر من أي وقت مضى في الوقت الذي صار فيه حزب الله أكثر الأرقام صعوبة على الساحة اللبنانية؛ وحدث ذلك كله بينما أسعار النفط تصل إلى عنان السماء. ويدرك الجميع أيضا أن انتخابات التجديد النصفي للكونجرس قد حملت رسالة ليس فقط لصانع القرار الأمريكي بأن سياسته خاطئة ومكلفة ولم تحقق أهدافها، وإنما أيضا حملت علامة للمعسكرات الفكرية المختلفة أن تعيد تقييم مواقفها وتفكر في الخروج من المأزق الراهن، وفوقه استئناف الولايات المتحدة لمسيرتها في العالم حيث تفتح الأسواق وتعيد تشكيل القلوب والعقول.

وإلى هنا تتوقف مساحة الاتفاق بين المدارس الاستراتيجية المختلفة ويبدأ الاختلاف حول تقييم ما جرى من قبل، فالليبراليون يركزون على مقولة «ألم نقل لكم من قبل» على اعتبار أنهم عارضوا الحرب الأمريكية في العراق منذ بدايتها، وكانت معارضتهم نابعة من عدم الاقتناع بالأسباب، وخوفا من التورط وتكرار التجربة الفيتنامية، وثقة معدومة في قدرة الحرب على تحقيق أهداف سامية وفي نوايا النخبة «الإمبريالية» الأمريكية الحاكمة. ولذلك فإن مهمة لجنة بيكر ـ هاملتون ينبغى أن تكون تنظيم عملية الخروج الأمريكي من العراق، ومنها يبدأ إعادة تركيب السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط كله على أسس تأخذ في اعتبارها أنها منطقة ليست جاهزة بعد للدخول في النظام العالمي المعاصر.

أما المحافظون التقليديون الذين جاء منهم جيمس بيكر فإنهم لا يأبهون كثيرا لا للأهداف السامية ولا لمدى فاعلية السلاح في حد ذاته وإنما يهمهم تغيير علاقات القوى في اتجاه مصالح بعينها. ومن ثم فإن الموضوع في العراق لم يكن جوهره الإطاحة بصدام حسين أو نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط بل هو خلق توازن للقوى، وشبكات للمصالح، تعمل كلها لصالح الولايات المتحدة. هنا فإن استخدام السلاح بالطريقة التى تم بها كان خلطا بين الاستراتيجية والتاريخ، وبين المعارك والآيديولوجية. ومن ثم فإن مهمة لجنة بيكر ـ هاملتون ليست بالضرورة تحقيق الانسحاب الأمريكي الفوري من العراق، وإنما إعادة تشكيل الوضع الإقليمي والدولي بحيث تخرج الولايات المتحدة بأقل الخسائر الممكنة، ومن يعلم فربما تسنح فرص هنا أو هناك لخدمة المصالح الأمريكية على المدى المتوسط والبعيد.

ولكن المحافظين الجدد لن يتركوا الساحة الفكرية الأمريكية خالية رغم ما يبدو من تراجعهم على ساحة السياسة العملية. وبالتأكيد فإن خروج رامسفيلد ومن قبله ولفويتز وفيث وغيرهم من كهنة المحافظون الجدد من السلطة شكل علامة أفول على تيار سياسي بأكمله. ومن المؤكد أيضا أن علامة «المحافظون الجدد» قد صارت على حد تعبير جاشوا مورافتشيك مثل «اليهودى القذر» أو «الأمريكي القبيح» والتى تعكس درجات من التهور الآيديولوجى والفشل السياسي والاستراتيجي. ولكن كل ذلك لم يفت في عضد المحافظين الجدد الذين لا يزالون على اعتقاد جازم في صحة مقولاتهم الأساسية بأن السلام في العالم لا يتجزأ، وأن قيم الحرية والديمقراطية ذات طبيعة عالمية، وأن الأفكار بصفة عامة تحتوي على قوة التغيير والتأثير، وأن هناك شرا في العالم ينبغي مواجهته. وكما هي العادة في مثل هذه المواقف، فإن الجماعة لا ترجع فشل الإدارة الأمريكية في العراق خاصة وفي الشرق الأوسط عامة إلى فقر في الفكرة ذاتها وإنما إلى أخطاء في التطبيق. فهم يدركون الآن أن الإعداد لغزو العراق لم يكن كافيا ولا كفؤا، كما أنه جرى التقليل من حجم المرارة العربية المتراكمة بين الفترة الاستعمارية في الماضي والحالة الفلسطينية في الحاضر، وبالتأكيد فإن نظرية الحرب في العراق، استنادا إلى أعداد قليلة من الجنود مع قدرة تكنولوجية عالية، قد ثبت عدم فاعليتها. ولكن في ما عدا ذلك فإن أفكار المحافظين الجدد لا تزال صحيحة في أن البنية السياسية والآيديولوجية في دول الشرق الأوسط هى المسببة للإرهاب، وأن هناك خطرا حاليا قادما من هذه المنطقة على أمريكا والغرب سوف يزداد كلما اقترب أكثر من امتلاك أسلحة الدمار الشامل. ومثل هذا الخطر لا يمكن مواجهته بتوازنات القوى الجديدة كما يقول المحافظون التقليديون أو بالانسحاب من الساحة كما يقول الليبراليون، وإنما من خلال القوة المسلحة. ومن وجهة نظر هؤلاء فإن سياسات القوة التى اتبعها رونالد ريجان خلال الثمانينات من القرن الماضى كانت هي التى أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي. كما أن المواجهات العسكرية الحازمة في البوسنة وكوسوفو كانت هي التي حسمت الاستقرار في أوروبا والتقدم في شرق وغرب أوروبا.

ولكن السياسة اليومية في الحقيقة لا تترك لأي من المدارس الفكرية الثلاث فرصة طويلة للتأمل، فهناك أسئلة مهمة تحتاج إجابات صعبة، واحدة منها واضحة للغاية وتتعلق بالعراق حيث الإشكالية معروفة: إذا بقيت الولايات المتحدة فإن الثمن فادح ويتزايد كل يوم، وإذا خرجت فإن الفراغ الاستراتيجي المترتب على ذلك سوف يكون كارثيا، وما بين الخيارين لا يوجد سوى منطقة رمادية، وغمام كثير على الأرجح أنه يحمل مساوئ الخيارين معا. وتصبح المسألة أكثر تعقيدا عندما تكون القضية هي قدرات إيران النووية حيث يمكن التعامل معها وفق أسوأ الفروض على أنها مجرد دولة نووية أخرى أضيفت إلى قائمة الدول النووية في العالم، أو يمكن ضرب 1500 موقع في إيران لها صلة بصناعاتها الذرية، وهو ما يفتح أبواب جهنم في منطقة تعيش حياتها في محاولة تجنب هذا المصير الملعون في الآخرة. أما إذا وصلنا إلى الصراع العربى ـ الإسرائيلي، فإن عقد التاريخ والجغرافيا والدين والثقافة تكون قد استحكمت ولم يبق إلا انتظار جيمس بيكر وتقرير لجنته الموعودة!