السوق والفتنة

TT

يرى المفكر الفرنسي المعروف جاك أتالي في كتابه الطريف الصادر مؤخرا بعنوان «تاريخ مختصر للمستقبل» أن العالم سيشهد في المدى المنظور تحولا جذريا في شكل محطات ثلاث عبر عنها بالإمبراطورية الكبرى والصراع الكبير والديمقراطية الكبرى.

أما الإمبراطورية الكبرى فهي سلطة المال المطلقة الناتجة عن العولمة الاقتصادية. فالحركية الحالية المتنامية ستفضي إلى تحطم الكيانات القومية بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية. وفي حالة قيام هذا المشهد ستتقوض الطبيعة وتتم خصخصة الجيش والشرطة والعدالة، ويتحول الكائن الإنساني إلى بضاعة مصنوعة قبل أن يختفي.

وإذا لم يتم التغلب على الآثار الفادحة لهذا التحول، ستنجرف الإنسانية إلى فتنة أهلية عارمة تتصادم فيها دول ومجموعات دينية وتشكيلات إرهابية خاصة.

وفي حال ما تمكنت الإنسانية من احتواء وضبط آثار العولمة واحتفظ للسوق بحيويته وديناميته مع كبح تجاوزاته، أصبح من المتاح قيام ديمقراطية كونية بحكومة عالمية ومجموعة مؤسسات محلية وإقليمية فاعلة. ويتوقع أتالي انهيار الإمبراطورية الأمريكية قبل عام 2035 على أن يتلو هذا الانهيار تتابع الموجات الثلاث المذكورة وتنجح الموجة الديمقراطية في حدود عام 2060.

وليس من همنا عرض كتاب أتالي بالتفصيل وفيه من المعلومات والأفكار الطريفة ما يستحق وقفة مطولة، وإنما حسبنا الإشارة إلى المعطيات التي يوردها في الفصل الهام الذي عقد لموجة الصراع الكوني المعمم الذي أشار إلى بعض نذره القائمة حاليا.

ففي هذا الفصل يتنبأ أتالي بعودة الحروب الدينية المتمحورة حول الديانتين المسيحية والإسلامية. فبعض الحركات المسيحية تحمل بشدة على السوق والديمقراطية وترى فيهما خطرا على الإيمان والعقيدة والسلوك الصالح من موقع الدفاع عن النصوص المقدسة وعن القيم الأخلاقية والاجتماعية التي تحملها.

فالكنيسة الكاثوليكية التي وصفها بأنها أول امبراطورية مترحلة وقفت عهودا طويلة ضد العقل والعلم والتقدم والحقوق الفردية وقيم السوق قبل أن تنصاع للتأقلم كارهة مع الحداثة. ومن المتوقع أن تبرز آيديولوجيات كاثوليكية جديدة محافظة رافضة لليبرالية الاقتصادية وللديمقراطية وللسوق.

أما النزعات الإنجيلية البروتستانتية فقد شهدت بالفعل صحوة واسعة، خصوصا في أمريكا، حيث وصلت إلى عقر المؤسسات الجامعية وغدت تحكم في الكثير من مراكز الرأي والقرار ووسائل الإعلام وأصبح لها التأثير الفاعل في المجال السياسي.

وتدافع هذه النزعات عن «النقاء الأخلاقي المسيحي» في مقابل الطفرات الجديدة من الحداثة التقنية والاقتصادية.

ويرى أتالي أنه عندما تصبح الإمبراطورية الكونية في طور التهديد للإمبراطورية الأمريكية المتداعية، يمكن أن تدفع بعض هذه الكنائس الولايات المتحدة إلى إعلان الحرب على الإسلام والديمقراطية والرأسمالية، في ما يشكل نمطا من الانعزالية التيوقراطية الخطيرة التي تقوض في العمق الديمقراطية الأمريكية التي تصبح مجرد طلاء ظاهر. كما سيمتد تأثير هذه الكنائس الإنجيلية إلى الأحياء الفقيرة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، متحالفة مع مافيات وامبراطوريات الجريمة وشبكات القرصنة وتجارة السلاح والمخدرات، كما ستتشكل لمواجهة الإسلام على خطوط التماس بين الديانتين في الشرق والجنوب.

كما ستشهد أوروبا الصحوة الدينية ذاتها، وتصبح لها أشكال سياسية مرئية، ومن مؤشرات هذا التحول البادية حاليا للعيان عودة المسائل اللاهوتية إلى الحوار السياسي سواء في ما يخص مسألة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي أو المتعلقات الدينية في موضوع الدستور الأوروبي، وتزايد حضور الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تستند للقيم الدينية في برامجها السياسية والمجتمعية. وفي العالم الإسلامي يرى أتالي أن القوى نفسها المناهضة للديمقراطية والعولمة قد ارتفع صوتها وتزايد نفوذها. ويرى أن هذه المواجهة ستمتد إلى أمريكا وإسرائيل وأوروبا واليهودية والمسيحية، أي الى كل مكونات ورموز الغرب والإسلام، في إطار قطيعة خطيرة ومتنامية بين الغرب والإسلام. وإذا كان أتالي يتوقع في مرحلة قادمة أن ينجح خيار الإصلاح الديني والمصالحة مع الحداثة إلا أنه يرى أن التيارات المتعصبة والراديكالية هي التي ستقود في المدى المنظور الفتنة الدينية داخل العالم الإسلامي نفسه وما بينه والغرب.

ويرى في تنظيم القاعدة والمجموعات الإرهابية القريبة منه مؤشرا دالا على هذا المشهد المريع. وليست الديانات الآسيوية الملتبسة بالهويات القومية بمنأى عن هذا التحول، ولذا فإن المعركة الأولى في هذه الفتنة الكونية يمكن أن تندلع في تايوان أو المكسيك أو الشرق الأوسط، وكلها مواقع تتكثف فيها عوامل الصراع المتمحور حول الماء والنفط والديانات والديمغرافيا وهوة الشمال والجنوب ونزاعات الحدود.

ولئن كان أتالي لا يقف عند هذا المشهد ويتوقع أن تخرج منه البشرية سالمة متجهة الى نمط من الجنة الديمقراطية الدائمة، إلا أنه يعترف أن مؤشرات هذا الوضع المريع لا تزال تحجب ذلك الأفق.