محطات الألم والأمل: العراق.. فلسطين.. لبنان

TT

لعل زيارة الرئيس بوش للأردن لمقابلة رئيس وزراء العراق تثير الكثير من التساؤلات حول هدفها الحقيقي، ولكن الملاحظة الأولى هي انه قرر أن يقترب جغرافيا من العراق بدون زيارته مع أنه من الواضح أن موضوع رحلته الأساسي هو مقابلة نوري المالكي، كما أن الكثير من المسؤولين الأمريكيين، وهو على رأسهم، سبق ان زاروا العراق. ويثور هنا التساؤل: هل أقر رجال الأمن المسؤولون عن سلامة الرئيس بأن الموقف بلغ من السوء ما لا يمكنهم معه تحمل مسؤولية حمايته. واذا تركنا هذا التساؤل المنطقي، فإن ما أوردته الصحف الأمريكية حول الغرض من الزيارة يثير أكثر واخطر من هذا التساؤل. فقد ذكرت تلك الصحف ان الولايات المتحدة تريد الوقيعة بين رئيس الوزراء ـ وهو شيعي ـ ومقتدى الصدر، وهو زعيم شيعي، وتريد لتحقيق هذا الغرض مساعدة الدول السنية الرئيسية. فكأن الولايات المتحدة لا تكتفي بما سببه غزوها من انقسام داخل صفوف الشعب العراقي على أسس طائفية وعرقية بل تريد تعميق تلك الانقسامات، واذا كنت لا أعرف كيف تساهم مثل تلك الانقسامات في مساعدة واشنطن على الخروج من المأزق، وكيف تتصور بعد كل الذي حدث أن السنة العراقيين يمكن أن ينضموا الى فريق من الشيعة ضد فريق آخر، وأن دولا عربية يمكن ان تساهم في هذه العملية المستحيلة والتي تزيد من معاناة شعب عزيز على كل عربي.

والحقيقة أن السياسات الأمريكية تعاني منذ تولت الإدارة الحالية، وخاصة منذ جريمة 11 سبتمبر البشعة ـ من نوع من «عمى الالوان» واختلاط المفاهيم والاضطراب النفسي الذي يجعلها تراكم الاخطاء وتختار من المسالك ما يقود بها الى طريق الندامة، بدون أن تشعر فعلا بالندم وهي تقود شعبها وشعوبا أخرى إلى أوعر المسالك. وقد رأينا ذلك في العراق وفي فلسطين، حيث كان من الضروري ـ والمصلحة ـ لها وغيرها ان تدعو الى حوارات بناءة على أسس سليمة بدلا من ان تنحاز لطرف دون آخر فتزيد الامور تعقيدا والمواقف احتقانا، مما ينعكس في النهاية بالسلب على النظرة اليها وبالتالي على مصالحها. فبالنسبة للعراق اعتقد ان السياسات الرصينة تقتضي البعد عن تصرفات تؤدي الى نتائج عكسية ـ مثل محاكمة صدام التي اكسبته تعاطفا لا يستحقه، ومثل محاولات اشعال ـ او على الأقل قبول ـ فتنة التقسيم بدلا من المساعدة على الحوار البناء الذي يساهم في انجاحه تأكيدها عمليا نيتها في الانسحاب في موعد تقريبي بشرط أن تتوحد القوى العراقية في تأكيد تمسكها بوحدة البلاد وتبدي عمليا استعدادها للحوار، وذلك بدلا من اتباع سياسة تشجيع طرف ضد آخر.

ولعلها بدلا من أن تطلب من الدول العربية تشجيع مزيد من الانقسامات ان تستعين بها لاستكمال ما بدأته الجامعة العربية من محاولة اعادة الوحدة الوطنية التي فككها التدخل الأمريكي، وهذه الوحدة الوطنية هي الكفيلة بخلق ظروف انسحاب القوات الغازية الذي يعني تخليص واشنطن من ورطتها، ولكنه يعني أهم من ذلك استخلاص حرية واستقلال العراق من براثن احتلال يكاد ـ رغم دعاوى الديموقراطية الكاذبة ـ يكون توأما لطغيان نظام صدام الذي طالما عانى منه الشعب العراقي والامة العربية والمنطقة كلها. ولعل الولايات المتحدة تدرك أن جزءا من الجهد لتحقيق هذا الهدف هو حوار مع كل دول الجوار، وخاصة سوريا وايران، اللتين لا تشجع مقاطعتها لهما على بلورة مواقف في صالح الجميع، وأقول الحوار وليس محاولة التخويف أو التهديد. اما بقية دول الجوار فهي بالفعل تسعى الى تهدئة الأوضاع لصالح الشعب العراقي كله، وأثق في أن ما سوف يسميه الرئيس الأمريكى في عمان هو انعكاس للرأي السديد، وليت الفرصة كانت أتيحت للرئيس بوش ليلتقي المزيد من الزعماء العرب، الذين بذلوا ويبذلون جهودا حثيثة ومخلصة ليسمع منهم التحليل الصادق العميق الذي لم يتغير منذ بدأت رياح الشر والجهل وسوء النوايا تدعو الى غزو العراق على عكس ما تقتضيه الحكمة والتعقل والمعرفة بنفسية الشعوب وتاريخ المنطقة.

وبالنسبة لفلسطين، فقد قابل البعض بالدهشة التطورات الاخيرة بالنسبة للهدنة بين المنظمات الفلسطينية واسرائيل وبأحاديث أولمرت حول الاستعداد لاستئناف عملية المفاوضات. واذا كان هذا يعكس جهودا دائبة وحثيثة بذلتها دول عربية وخاصة مصر، فانه لا يخفي سوء النوايا الذي أظهرته ـ وربما ما زالت تخفيه ـ اسرائيل والولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، والذي كانت مظاهره:

بعد استشهاد ياسر عرفات وتولي ابو مازن السلطة، كالوا عليه الثناء باعتباره معتدلا وراغبا في التماشي مع مقتضيات السلام ـ على الأقل كما يرونها ـ فأساءوا اليه بهذا المديح، فقد بدا محاولة لإحراجه والمساس بما يتمتع به من وطنية صلبة واصرار على التمسك بحقوق الشعب الفلسطيني كاملة بأسلوب يتسم بالمرونة غير المخلة. وفي نفس الوقت فان اسرائيل أحرجته من جانب آخر باتخاذ موقف جامد ومتعنت هو استمرار لسياسات كل حكوماتها السابقة مهما تظاهرت بالعكس، مقترنة بالإصرار على العدوان والقتل والتدمير والاجتياح بدون رادع من ضمير أو من دول تزعم أنها داعية الحق والعدل والقانون والشرعية.

وبعد فوز حماس في الانتخابات ـ نتيجة لأخطاء فتح وايضا لسياسات اسرائيل ـ قرر الغرب، بإيعاز من الولايات المتحدة أسيرة النفوذ الصهيوني أو الراعية له (فقد اختلفت الآراء مثلما حدث بالنسبة للبيضة والدجاجة)، مقاطعة السلطة الشرعية الفلسطينية التي جاءت بارادة شعبية حرة، سياسيا واقتصاديا، الى درجة التجويع. ولم تعط حكومة حماس (وهي حكومة الشعب الفلسطيني) الفرصة لكي تتولى زمام الأمور وتنظم نفسها وتتطور مثلما تطورت كل حركات التحرير بعد وصولها الى الحكم. فوضعت العقبات أمامها حتى انشغلت بحروب التجويع والحصار والعدوان التي لم تترك لها مهلة لكي تنظم امورها. وفي حديث أخير مع خبير أمريكي بشؤون الشرق الاوسط شارك في مباحثات كامب دافيد اتفق معي في ان حصار ومقاطعة الحكومة المنتخبة شعبيا وديموقراطيا كان خطأ، ولم أستشعر لدى مسؤول أمريكى كان حاضرا المناسبة الاجتماعية التي تم خلالها اللقاء أية رغبة في المجادلة في هذا الرأي.

وظهر مع مرور الوقت فشل التخطيط الاسرائيلي لتعميق الانقسام بين فتح وحماس، وأوشكت الجهود المصرية بالذات على النجاح في اقناع جناحي الحركة الوطنية الفلسطينية بتشكيل حكومة وحدة وطنية، كما واصلت سعيها لكي تنهي موضوع الأسرى الفلسطينيين والأسير الاسرائيلي، وفتحت مصر أبوابها لاستقبال خالد مشعل ثم اسماعيل هنية تخليصا لزعامة حماس من شعور الحصار الاسرائيلي. وازاء ذلك أعلن أولمرت ما اسماه عرضه الجديد لاستئناف عملية السلام. وانا شخصيا لا احب تعبير استئناف لأنه يعني العودة الى اساليب ماضية اظهر فيها الفلسطينيون كل حسن النوايا بينما كشفت اسرائيل عن كل النوايا السيئة بتعضيد من عناصر أمريكية معروفة داخل وخارج الحكومة. وقد سبق لاسرائيل أن وعدت وتعهدت ولم تف بأي عهد أو وعد الى النهاية، بل كانت تنسحب من أرض لتعود الى اجتياحها، وتخرق كل الاتفاقيات مما يكون له رد فعل فلسطيني عنيف تستغله اسرائيل لكي تستمر في عدوانها. ومن يقرأ خطاب اولمرت ويحلل مضمونه يجد أنه لا يحوي جديدا، وانه لم يستوعب درس فشل سياسة الحصار والمقاطعة والتجويع الاجرامية، وإن تظاهر ـ مثل كثير ممن سبقوه ـ بالرغبة في التسوية.

واعتقد أنه من الضروري أن يتعامل الفلسطينيون مع هذا الموقف بكثير من الحكمة الممزوجة بالحزم، وأن يذهبوا مع الكذاب الى باب الدار، كما يقول المثل، من دون أن يعبروا خطوطا حمراء هي خطوط التوافق الوطني الفلسطيني والتوافق القومي العربي.

وفي هذه الأثناء نشرت الـ«نيويورك تايمز» دراسة تكشف زيف ادعاءات اسرائيل حول ملكية الاراضي التي بنت عليها مستعمراتها. وتدين الدراسة بناء المستعمرات من حيث خرقها ليس فقط لحقوق الملاك الفلسطينيين بل أيضا لحقوق المجتمع الفلسطيني.

ولقد كنا نعرف ذلك ولكن المهم ان مثل هذه الدراسات تنشر الآن في صحف غربية، ولعلنا نستطيع ان نستفيد منها ومن غيرها الكثير مما قد نكون قد اطلعنا عليه أو لم يطلع عليه الكثيرون في الغرب الذين لو عرفوا الحقائق سواء بالنسبة للارض او اللاجئين لربما استطاعوا تمزيق غشاء الأكاذيب التي تغذوا عليها بفضل إعلام وسياسات وصفها خبراء بأنها تفضل مصالح اسرائيل على مصالح الولايات المتحدة ذاتها.

كتبت في الاسبوع الماضي عن أحوال العرب التي لا تسر، وأشرت الى ضرورة معالجة هذا الامر بجهود مكثفة، ولعل لبنان حيث تتطور الامور بشكل يدمي القلوب، بعد ان أسيلت دماء الكثيرين، يحتاج من كل من يستطيع ان يحاول جمع اللبنانيين جميعا حول مصلحة لبنان قبل اية مصلحة فئوية او طائفية، فلبنان كله معرض للغرق مرة اخرى في أتون العنف والضياع، ولم يسلم أحد ولن تسلم المنطقة من تداعيات العواصف التي لا أتصور أنها تعكس طيبة شعب يحب الحياة ويعشق الفن والجمال ولا يجوز ان يحكم عليه بأن يظل فريسة لأطماع واهواء داخلية وخارجية. واذا كان هناك دور مطلوب من حكماء العرب فإنه لا يمكن إلا ان يكون دورا مساعدا لجهود حكماء لبنان وهم كثيرون للعمل على تجاوز الازمة قبل ان تأتي الايام بما لا يحقق اية مصلحة قومية او قطرية.