البجع وما وراء مبدأ اللذة

TT

كان المواطن الانجليزي من مقاطعة ويلز يراقب البجع من نافذة بيته عندما لاحظ حركة غير عادية تحدث بين البجع، بعضه يطير فزعا والبعض الآخر ينكمش على نفسه وكأنها يحمي نفسه من خطر داهم. على الفور نظر الرجل في التليسكوب الذي ربما ركبه لمراقبة جيرانه البعيدين فلاحظ رجلا يضع شيئا في حقيبة بطريقة أثارت ريبته فخرج على الفور ومعه كلبه، لو كان في أمريكا لأخذ معه مسدسه، لم تذكر وكالات الأنباء نوع الكلب غير أننا نستطيع الاستنتاج أنه كان كلب حراسة من النوع الشرس، أي أنه استخدمه سلاحا بديلا عن المسدس والمدفع الرشاش. والكلاب الشرسة سلاح قديم استخدمته الجماعات والأفراد كما استخدمته الأنظمة. في رواية جورج أورويل الشهيرة «مزرعة الحيوانات» حرصت الخنازير، بعد الاستيلاء على المزرعة وطرد أصحابها من البشر، على عزل عدد كبير من الجراء عن بقية الحيوانات ثم وضعوا لها منهاجا منضبطا في التربية يتسم بالشراسة والضراوة لاستخدامها فيما بعد كأسلحة فتاكة ضد نفس الحيوانات التي أوصلتهم من قبل إلى حكم المزرعة، ما علينا.. المهم أن الرجل الانجليزى خرج مسلحا بكلبه ليعرف ماذا يحدث للبجع في مياه القنال الانجليزي، فوجد رجلا تلطخت يداه ولحيته بالدماء والريش، كما لاحظ رقبة بجعة تطل من الحقيبة. في تحقيقات الشرطة والنيابة وأمام القاضي قال الرجل إنه كان صائما يبحث عن طعام لإفطاره، وأن هذه البجعة طائر مثل أي طائر آخر، وعندما قيل له إن هناك قانونا صدر منذ ثمانمائة عام يجعل هذا البجع من ضمن الملكية الخاصة للأسرة المالكة ولذلك يسمى البجع الملكي، أجاب: أنا أكره الملكة وأكره هذه البلاد.

حكم عليه القاضي بالسجن خمسة عشر شهرا كان قد قضاها في السجن فأفرج عنه.

نحن هنا أمام واقعة تمثل عينة كاشفة وممتازة لآليات التفكير في عقل المتطرف تتضمن كل عناصره بشكل واضح ومكثف، ترويع الآخرين وإلحاق الأذى بهم بشكل يسبب لهم أكبر قدر من الصدمة والألم والفزع محققا في الوقت ذاته أكبر قدر من الشعور بالارتياح، ذلك الارتياح الناتج عن لذة العدوان. أن تذبح شخصا أمام كاميرات التليفزيون، أن تذبح شيعيا إن كنت سنيا، أن تذبح سنيا إن كنت شيعيا، أن تذبح الاثنين إن كنت منتميا لطائفة ثالثة لا فرق، المهم أن تكون هناك كاميرا تنقل لجمهورك المستهدف أكبر قدر من الفزع. فهل كانت هناك كاميرا في واقعة ذبح البجعة هل كان هناك جمهور يتم ترويعه؟

الأخ ذابح البجعة ليس عربيا ولا من أصول عربية فإسمه (مياه) والعرب يكتفون بشرب المياه وربما تعكيرها أحيانا ولكنهم لا يسمون بها أولادهم. هذا الأخ، يعرف جيدا أن هناك عددا كبيرا من البشر من ذوي الحس المرهف يمارسون هواية جميلة هي مراقبة الطيور والاستغراق في تأمل حركتها، وأن هؤلاء جميعا يشكلون جمهورا لا بأس به، ربما ظننت بعد قراءتك للخبر أن الرجل ضبط قبل أن يتاح له الوقت اللازم لإخفاء البجعة في الحقيبة، الواقع أنه كان لديه المتسع من الوقت لإخفاء بقرة قبل أن يصل إليه الانجليزي وكلبه، ولكنه كان حريصا على أن تطل رقبة البجعة المذبوحة من الحقيبة لكي يراها من فاته مشاهدة عملية الذبح ذاتها، كما حرص أيضا على تلطيخ يديه ولحيته بالدم والريش، كان ينقصه شيء واحد ربما نسي إحضاره، أن يمسك بمكبر صوت ويصيح فيه: أيها السادة.. لقد ذبحت بجعة.

الأخ مياه كان واثقا من أنه لن يعود لبيته وأنه سيتم اقتياده لأقرب مخفر للشرطة، وأن مدفع الإفطار سيضرب وهو هناك، وأنهم سيرغمون على إطعامه وإلا رفع عليهم قضية يتهمهم فيها بإهانة المسلمين، وأمام القضاء سيمارس ذلك التكنيك الشهير الذي يستخدمه المتطرف عادة وهو استخدام المفاصل الموجودة بين خطوط العدو لصنع ثغرة يضربه منها، في كل المجتمعات وخاصة المتحضر منها هناك خطوط ثابتة من القوانين والأعراف والقيم والمبادئ، هي أشبه بقضبان السكك الحديدية تسير عليها المجتمعات، وكل من يخرج عن هذه القضبان يجد القانون في انتظاره أو الرفض والاستهجان من المجتمع نفسه، هناك من يخرج على هذه القضبان بدافع نبيل يتمثل في إعادة النظر في قيم المجتمع الثابتة نفسها بهدف إظهار زيفها وتعطيلها لمسيرة البشر في اتجاه قيم أعلى. أما المتطرف فهو يقوم بدراسة هذه الخطوط جيدا ليس بهدف تعديلها بل بحثا عن مساحة ليست مشمولة بحماية القانون ليتسلل منها ويضرب ضربته. أكاد أتصور موقف القاضي الانجليزي المسكين وهو يسهر الليالي باحثا في قلق عن قانون يعاقب به الأخ مياه.

كل إجابات الأخ مياه في التحقيق تمثل ما أسميه الأكاذيب المعتبرة، والاعتبار هنا مصدره أن أكاذيبه نفسها تحمل قيما يحمل لها المجتمع الانجليزي كل الاعتبار، فهو جائع والجائع يحظى باهتمام شديد في كل المجتمعات المتحضرة، فضلا عن أنه يشعر كل المحيطين بالجائع بالذنب لأنهم لم يوفروا له ذلك النوع من الاندماج في المجتمع الذي يتيح له عملا يقتات منه. وهو جائع لأنه صائم، أي أنه يمارس طقسا دينيا وهذا أدعى إلى الاعتبار، فالناس هناك يحترمون ممارسة الآخرين لطقوس دياناتهم، أما فعل الذبح نفسه فماذا فيه؟ البجعة طائر مثل أي طائر آخر، ألا نذبح الدجاج والحمام والبط والأوز والسمان والطيور المهاجرة عموما.. ما هو الخطأ الذي ارتكبته؟

ولكننا لا نذبح البجع ولا نأكله.. أنتم أحرار فيما تأكلونه، أنا لا أتدخل في حريتكم فلماذا تتدخلون في حريتي في ممارسة تقاليدي وتراثي وعاداتي.. الحكاية إنني ذبحت طائرا لآكله.. ما هي جريمتي.؟

كما ترى، إجاباته تحمل عناصر معتبرة تصلح عمودا ممتازا لكاتب متطرف يهاجم الغرب الوغد الذي يريد حرماننا من ممارسة تقاليدنا وعادتنا لتجريدنا من هويتنا. أنا أقسم بكل ما هو مقدس لدي أن الأخ مياه لم يكن جائعا يبحث عن طعام لإفطاره، كما لم يحدث أن شيطانا زرع في بطنه رغبة حارقة في أكل بجعة، هو فقط متطرف يجيد استخدام عناصر الحق في المنطق الصوري ليحصل به على الباطل.. وهو أن يذبح طائرا لا أحد على وجه الأرض يأكله.

وأنا على يقين من أنه لم يكن سيأكلها. كان سيمشي بها في شوارع انجلترا، ويركب قطارات الأنفاق على أمل أن يراه الشعب الانجليزي كله موسعا بذلك إلى أقصى حد مساحة المصدومين والمفزوعين والمتألمين فهذا كله يشعره بالارتياح. أن تتألم أنت، هذا ما يريده المتطرف.

اسمح لي الآن بارتكاب خطأ قاتل في صنعة الكتابة وهو الخروج عن الموضوع، أريدك أن تراقب نفسك وأهل بيتك بعد مشاهدة عدد كبير من دعاة الفضائيات المعتدلين، هل تشعر أنت وأهل بيتك أنكم أصبحتم أكثر ابتهاجا بالحياة وأكثر حرصا عليها، أم تجد أنكم أصبحتم أكثر خوفا وأن إحساسكم جميعا بالذنب يفوق أي إحساس آخر. ألا تجد أنت وهم أنكم مقصرون في أمور دنياكم ودينكم بما يجعلكم أكثر قربا من نيران الجحيم؟

هذا هو ما يفعلونه بالضبط، أن تشعر أنت بالألم وأن يشعروا هم بالارتياح وانعدال المزاج أمام الكاميرات، هم أيضا يذبحون البجع.

* كاتب مصري