من أجل تفعيل مجلس التعاون الخليجي..

TT

خمسة وعشرون عاماً مرت على إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية، حقق فيه بعض الإنجازات، وعانى من الإخفاقات أكثر، وهو اليوم يمر بمرحلة تستوجب إعادة النظر، في ظل المتغيرات الإقليمية والعالمية المحيطة. لقد كان المجلس وليد ظروف إقليمية ودولية حتمت ظهوره إلى حيز الوجود، ومر بفترات كادت أن تؤدي إلى انفراط عقده، ولكنه قاوم الظروف واستطاع البقاء والاستمرار، ولعل هذا هو أهم إنجاز لمجلس التعاون: البقاء واقفاً رغم الظروف. كان إنشاء مجلس التعاون نتيجة حتمية للثورة الإيرانية، والاجتياح السوفيتي لأفغانستان، والحرب العراقية الإيرانية، والحرب الباردة بين عملاقي العالم ذلك الوقت: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، ليحقق هذا المجلس نوعاً من توازن قوى إقليمي بين العراق وإيران، وسداً في وجه تصدير الثورة الإيرانية إلى دول الجوار، وحليفاً قوياً للولايات المتحدة في وجه المد السوفيتي الساعي إلى المياه الدافئة.

بانتهاء الحرب العراقية الإيرانية، وانسحاب السوفيت من أفغانستان، وهدوء الزخم الثوري الإيراني، تحول مجلس التعاون إلى منظمة إقليمية شكلية إلى حد بعيد، ولم يعد هناك من نشاط بارز له إلا الاجتماع الدوري لقادة دوله، دون أن تكون هناك قرارات حقيقية، وحتى لو حدث ذلك، فإن هذه القرارات لا تنفذ، وذلك لعيب في هيكلية ذات المجلس، ليس مجال مناقشتها هنا. وكان من المنتظر أن يؤدي الغزو العراقي للكويت إلى تفعيل المجلس، ولكن الأزمة بدأت وتحولت إلى حرب خليج ثانية، وانتهت دون أن يكون للمجلس أي دور يذكر، بقدر ما كانت الولايات المتحدة تحديداً هي الفاعل المباشر على الأرض. بشكل عام، لم يكن المجلس ذا فاعلية طوال الخمس والعشرين سنة الماضية، وذلك قياساً بما كان مأمولاً منه خلال السنوات الأولى للإنشاء. كان المأمول، بل والمتوقع في فترات معينة، وخاصة أثناء حرب تحرير الكويت، أن يتحول المجلس إلى دولة واحدة ذات شكل فدرالي، أو حتى كونفدرالي، أو أن يكون ذا سياسة موحدة تجاه الخارج على أقل تقدير، ولكن ذلك لم يحدث، بل كان العكس هو الصحيح، والسبب في ذلك وجود التوجس الحساسية بين أعضائه، وريبة الصغير في غايات الكبير، أو محاولة إثبات ذاته أمامه عن طريق المبالغة في القول بالاستقلالية، أو التمسك المتشدد بمبدأ السيادة، رغم أن هذه السيادة مخترقة بشكل شبه كامل من قبل قوى خارج المجلس، وهنا تكمن المشكلة.

فرغم أن المجلس قام على أساس التعاون بين دوله وصولاً إلى وحدتها، وفق وثائق المجلس، إلا أن التضارب في السياسات هو واقع الأمر في العلاقة بين دوله، وفي علاقتها بالخارج، مما يجعله تنظيماً هشاً دون فاعلية حقيقية. وسواء كان الحديث في السياسة أو الاقتصاد أو هما معاً، فإن التضارب والتنافر هو عنوان العلاقات الخليجية ـ الخليجية بشكل كبير. سياسات اقتصادية متضاربة، اتفاقيات ثنائية خارج إطار المجلس، سياسات خارجية غير متسقة مع بعضها البعض، وغير ذلك من أمور قد لا تكون نابعة من مصلحة دول المجلس مجتمعة، بقدر ما هي نابعة من مصالح آنية عاجلة، أو توجسات ومخاوف من قبل هذا العضو أو ذاك، وهي مخاوف قد لا يكون لها أي أساس من الصحة. والحقيقة أنه قد يكون هناك بعض التبرير عندما استقرت أمور المنطقة إلى حد كبير، بعد لجم نظام صدام حسين وانسحاب قواته من الكويت، وبعد أن جاءت حكومة عقلانية في طهران، ولكن وضع اليوم مختلف تماماً، وهو أشبه ما يكون بالوضع الذي كانت عليه المنطقة عند تشكيل المجلس، وربما أشد خطورة.

فبعد سقوط نظام صدام حسين في العراق، وانتهاء العراق كقوة إقليمية، وعودة الزخم الثوري إلى طهران، ووجود البرنامج النووي الإيراني، والفشل الأميركي في العراق، مع ما يرافقه من أعمال عنف ومجازر يومية، فإن إعادة التفكير في مجلس التعاون أصبحت حتماً قبل أن تكون ضرورة. لقد كان استقرار المنطقة قبل الغزو العراقي للكويت يقوم على توازن القوى الإقليمية الثلاث: السعودية، والعراق، وإيران. وبعد انتهاء حرب تحرير الكويت، خرجت السعودية تقريباً من المعادلة الإقليمية إلى حد كبير، وعزلت العراق، ولم يبق إلا إيران مع الوجود الأميركي المباشر في المنطقة لتحقيق التوازن، واستقرار غير ثابت. ومع الخروج النهائي للعراق من المعادلة، لم يبق إلا إيران التي عادت إلى محاولة فرض نفسها كقوة إقليمية وحيدة في المنطقة، كما كان الوضع أيام الشاه، من خلال برنامج نووي طموح، وخاصة مع الفشل الأميركي في العراق، وفرض شروطها بالتالي. وفي هذه الحالة، فإن منطقة الخليج سوف تكون خاضعة للهيمنة الإيرانية، خاصة إذا اعترفت الولايات المتحدة بها كقوة إقليمية وحيدة في منطقة الخليج، وعضو في النادي النووي، إذا ما التزمت إيران مثلاً بتهدئة الأوضاع في العراق، وإيجاد مخرج مشرف للولايات المتحدة هناك، وعدم تهديد استقرار دول الخليج، وإنهاء تهديدها للأمن الإسرائيلي، مع استمرار وجود أميركي معين في المنطقة، وهذه أمور غير مستبعدة تماماً، سواء بالنسبة للولايات المتحدة أو إيران، إذا ما بدأت المفاوضات بين الطرفين الأميركي والإيراني، وخاصة إذا جاء رئيس ديموقراطي إلى البيت الأبيض، بل هو أمر وارد في أية لحظة بوجود أكثرية ديموقراطية في الكونغرس، فالسياسة لا تعرف المستحيل.

من هنا تأتي ضرورة إعادة التفكير في وضع مجلس التعاون، وإعادة تفعيله، إن لم يكن إعادة إنشائه من جديد. قد يرى البعض، وخاصة من دول الخليج الصغيرة، أن الاعتماد على الولايات المتحدة في حفظ أمنها واستقرارها أمر كاف بحد ذاته، دون حاجة إلى قدرة ذاتية مهما كانت صغيرة. ولكن استقراراً يقوم على الاعتماد الكامل على قوة عالمية كبرى، وفي ظل شروط قوة إقليمية معينة، هو استقرار هش مهما طال أمده. فالولايات المتحدة، أو الدولة الحامية هنا، لن يهمها في النهاية إلا تحقيق مصالحها، وعلى رأسها ضمان سريان النفط بأسعار مقبولة، وربما لو ضمنت لها إيران ذلك، فإنها ستترك لها حرية التحكم بشؤون الخليج وفرض شروطها ومطالبها، والتاريخ الأميركي في التخلي عن «الأصدقاء» واضح في هذه المسألة. الحل الرئيس لضمان استقرار دائم في منطقة الخليج يكمن في إعادة التوازن الإقليمي في منطقة الخليج، لا عن طريق وجود مباشر كبير لقوة خارجية، حتى وإن بقيت ضرورية لأمد بعيد، ولكن عن طريق خلق، أو إعادة خلق قوة إقليمية جديدة، تكون الموازن للقوة الإيرانية في المنطقة، وهذه القوة يجب أن تكون مجلس التعاون بعد تفعيله، إلا إذا كان المراد هو أن تكون القوة الإسرائيلية هي الموازن المفترض.

ولكن بوضعه الحالي، فإن مجلس التعاون غير مؤهل لأن يكون نداً للقوة الإيرانية، ما لم تكن هناك تغييرات جذرية في صلبه ومضمونه وشكله. من تلك التغييرات المفترضة، الإسراع مثلاً في تحويل المجلس إلى كونفدرالية واضحة المعالم في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسة الخارجية، ولا نقول وحدة شاملة أو حتى فدرالية، مع وضع آليات صارمة لتنفيذ القرارات المتخذة على مستوى المجلس الأعلى للمجلس. من ناحية أخرى، يجب فتح باب المجلس لأعضاء آخرين، وأنا أتحدث هنا عن اليمن تحديداً، الذي بوجوده في المجلس، سيعطي عمقاً استراتيجياً أكبر للمجلس. حقيقة يتخوف البعض من دخول اليمن إلى مجلس التعاون، وهو تخوف مبرر، من حيث أن هذا الدخول سيأتي معه بمشاكل اليمن إلى مجلس التعاون، ولكن لو نظرنا إلى الأمر بعمق أكثر، ووفق معيار ميزان الأرباح والخسائر، لوجدنا أن مزايا دخول اليمن إلى المجلس أكثر من المثالب على المدى الطويل. فمن ناحية اقتصادية مثلاً، يشكل اليمن قوة عاملة كبيرة قادرة على الحلول محل قوة العمل الأجنبية في دول الخليج، كما أن اليمن يشكل سوقاً استهلاكية واستثمارية جيدة. ومن الناحية السياسية، فإن وجود اليمن ضمن منظومة مجلس التعاون، هو دعم للمجلس كقوة إقليمية في وجه القوة الإيرانية. حقيقة أن لدخول اليمن إلى المجلس مثالب كثيرة، وخاصة إذا كان المدى القصير هو المعتبر، ولكن استقراراً طويل المدى في منطقة الجزيرة والخليج، لا يمكن أن يستمر دون وجود اليمن في المجلس، وهو الدولة «الجزيرية» الوحيدة التي ما زالت خارجه، وهذا قد يشكل مرارة معينة لدى الجانب اليمني ليست في صالح المنطقة ودولها في نهاية المطاف.

هناك مستقبل يتشكل الآن في منطقة الخليج، وهذا المستقبل يعتمد على القرارات المتخذة اليوم، فليت متخذي هذه القرارات ينظرون إلى أبعد من الحاجات الآنية العاجلة، ويكون المستقبل هو المدى المنظور إليه، حتى وإن عنى ذلك تخلي البعض عن جزء من استقلاليته وذاتيته المبالغ فيها، فما هو على المحك أكبر من ذلك بكثير.