بوش والعراق: المأزق سياسي.. والحل يبدأ بتغيير الدستور

TT

هل نحن أمام سياسة أميركية جديدة تجاه قضايا المنطقة العربية في فلسطين والعراق ولبنان؟

إن السؤال يطرح نفسه وسط سلسلة من اللقاءات والزيارات، يمثل الأردن محورا أساسيا فيها. والسؤال يطرح نفسه، وسط جدل أميركي حول تقرير لجنة جيمس بيكر واقتراحاتها لتغيير السياسة الأميركية في العراق، التي لم يتسرب منها سوى القول إن على الولايات المتحدة أن تتحاور مع كل من سوريا وايران، بينما تطلق الإدارة الأميركية إشارات مؤداها أنها ترفض هذه النصيحة، تارة من خلال القول إن التفاوض مع سوريا سيتم بمعزل عن التفاوض مع ايران، أو من خلال القول، على لسان الرئيس جورج بوش، إن التفاوض مع ايران لن يتم إلا بعد إضعاف ايران في العراق، ولن يتم إلا حسب الشروط الأميركية. ويوحي هذا كله بأن الإدارة الأميركية لا تزال في مرحلة الاستطلاع والدرس، ثم تقرر بعد ذلك موقفها الجديد.

وإذا أردنا أن نخرج من إطار التفاصيل، حول ماذا قال رئيس الوزراء نوري المالكي للرئيس بوش في عمان، وماذا سمع الملك عبد الله الثاني من حارث الضاري رئيس هيئة علماء المسلمين، فسنجد أمامنا مجموعة من القضايا الأساسية، لا بد من الوقوف عندها، لأنها هي التي تشكل مفاتيح المعالجة للوضع في العراق.

القضية الأولى: هي ما يدعو إليه تقرير لجنة بيكر من ضرورة التفاوض مع ايران وسوريا بشأن الوضع في العراق، فهذه مقاربة منقوصة لأنها تنتمي إلى مرحلة أن الأزمة في العراق أزمة أمنية، وأن البلدين سوريا وايران هما مصدر تسلل المقاتلين «الأجانب» إلى أرض العراق، ويمكن من خلال تعاون إيجابي من قبلهما أن يتوقف كل ذلك، وأن يتحسن الوضع الأمني في العراق، بينما يبرز الواقع الحاجة إلى موقف سياسي عربي تجاه العراق، تشارك به أساسا كل من السعودية ومصر، إضافة إلى سوريا والأردن، على أن يتحول هذا الموقف بعد ذلك إلى موقف عربي أشمل، من خلال جامعة الدول العربية، وبهذا تكون المعالجة قد بدأت في إطارها السياسي، الذي يتجاوز الإطار الأمني.

ولا بد أن نلاحظ هنا موقفين بارزين: أولا الموقف السوري، الذي رفض التجاوب مع دعوة ايران لعقد قمة ثلاثية تضم ايران وسوريا والعراق، لأن المحور في هذا الاجتماع ليس عربيا، ورغبة سوريا في أن يبرز دورها من خلال تحرك عربي. وثانيا ما جرى خلال زيارة الرئيس العراقي جلال طالباني إلى ايران، حيث عبر المسؤولون الايرانيون في اللقاء عن قناعتهم بضرورة «وجود تعاون وتفاهم مع السعودية ومن دون استبعاد الدور المصري». وهاتان إشارتان لا بد للإدارة الأميركية أن تأخذهما بعين الاعتبار.

القضية الثانية: هي ضرورة تحديد الأزمة في العراق، هل هي أزمة سياسية أم أمنية؟ وهنا نستعين بما يقوله المسؤولون العراقيون أنفسهم. نوري المالكي يقول، «إن الوضع الأمني والسياسي القائم في العراق يمثل انعكاسا صريحا لإرادات سياسية منحرفة». ومحمود المشهداني رئيس مجلس النواب يقول «إن الأزمة الأمنية باتت مرتبطة ارتباطا وثيقا بالأزمة السياسية». والرئيس طالباني يقول، «إن الحل في العراق يجب أن يكون أمنيا وسياسيا، ولن ينفع الحل الأمني وحده». وحين تكون الأزمة سياسية بالدرجة الأولى، فإن الأمر هنا يشمل: سياسة أميركا في العراق، وسياسة الحكومة العراقية نفسها. وآراء القوى العربية المجاورة للعراق في كيفية حل الأزمة السياسية. وآراء الدول المجاورة للعراق في كيفية الحل أيضا، وبالأساس ايران وتركيا. أما لقاء بوش مع المالكي في عمان، فهو ليس أكثر من جلسة استماع سيتلوها تفكير أميركي بالحل السياسي، حسب خريطة موسعة عراقية وعربية وإقليمية.

وحين يكون الحل سياسيا فإن جملة من الأمور تفرض نفسها فورا. أولها استعداد الولايات المتحدة الأميركية للانسحاب العسكري الفعلي من العراق، وبحسب جدول زمني معلن ومدروس. والأمر الثاني الاعتراف صراحة بأن الأزمة السياسية داخل العراق إنما تنبع من الدستور (دستور بريمر) الذي تم وضعه، والذي وضع على قواعد طائفية وإثنية، والذي أبعد ودمر مفهوم «المواطنية»، ثم انبثقت عنه هياكل سياسية يعترف رئيس الوزراء المالكي بأنها تعاني من «انحرافات سياسية»، ونقول من جهتنا إن هذه الانحرافات هي وليدة الدستور نفسه. والأمر الثالث هو خطر تقسيم العراق إلى أقاليم وفيدراليات، حسب ما نص عليه الدستور. ولا يمكن معالجة خطر التقسيم المرفوض عربيا وتركيا (وليس مرفوضا ايرانيا بوضوح كاف)، إلا بتغيير الدستور، وإطلاق دستور جديد يستند إلى مبدأ «المواطنية»، التي تستطيع وحدها أن تقود إلى وحدة العراق. وهذا يعني أن أية معالجة سياسية للوضع في العراق، لن تكون على غرار لقاء مكة، الذي أكد فيه المجتمعون نواياهم الطيبة بوقف العنف الطائفي المتبادل. ولن يكون على غرار دعوة الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان إلى مؤتمر دولي على غرار مؤتمر كوسوفو، فالشعب العراقي ليس مجموعات شعوب كالبلقان، والعراقيون بادروا بأنفسهم إلى صياغة دستور بديل يقوم على مبدأ «المواطنية» ويعالج الوضع الكردي بانفتاح، وذلك في مؤتمر عراقي انعقد في بيروت برعاية «مؤسسة دراسات الوحدة العربية»، التي يديرها الدكتور خير الدين حسيب.

القضية الثالثة: هي بروز موقفين متعارضين إزاء سبل حل الأزمة في العراق. موقف عربي سعودي وموقف ايراني. ومن المفيد دراسة هذين الموقفين بتمعن. يقوم الموقف الايراني، حسب ما ينقله الصحافيون عن قادة النظام على الأسس الثلاثة التالية:

أولا: الدعوة إلى الانسحاب الأميركي من العراق، إنما حسب جدول زمني.

ثانيا: موقف متناقض من طبيعة الحكم في العراق، يدعو من جهة إلى قيام حكومة مركزية، ويدعو من جهة ثانية إلى «فيدرالية عراقية مع حكومة مركزية، كما هو قائم الآن».

ثالثا: موقف طائفي يقول بـ«رفض العودة إلى السياسات التقليدية في المنطقة، على حساب ما هو قائم حاليا، أي العودة إلى استبعاد الأكثرية الشيعية من السلطة، ما يزيد من إمكان تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم».

إن الموقف الايراني بهذه الصيغة، هو دعوة لنبذ الاحتلال الأميركي، مع الحفاظ على كل ما أفرزه الاحتلال من تفتيت داخلي، وهو ما يستدعي التحاور مع ايران بشأن موقفها هذا، وباتجاه التأكيد على وحدة العراق، مع الحفاظ على مصالح جميع مواطنيه.

أما الموقف السعودي الأوضح، فقد صدر عن مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة بتاريخ 27/11/2006، وركز في ما يخص العراق على أمرين:

الأول: دعوة للحفاظ على واقع المنطقة وتوازناتها التاريخية، وهو مبدأ يمكن أن يقود إلى مسألة التوازن السني ـ الشيعي، في المنطقة كلها وليس في العراق فقط. أشار البيان السعودي إلى «التأثير المباشر الذي تمارسه الولايات المتحدة في قضايا المنطقة، وأهمية أن يكون هذا التأثير متسقا مع واقع المنطقة ومتماشيا مع توازناتها التاريخية».

الأمر الثاني: يتضمن دعوة لتجاوز حالة الاحتلال الأميركي إلى حالة إشراف دولي على الوضع في العراق. وهنا دعا مجلس الوزراء الأمم المتحدة «إلى أن تأخذ زمام المبادرة، وأن تتحمل الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن مسؤولياتها تجاه أمن العراق».

قد يبدو هذان الموقفان، الايراني والسعودي متعارضين، وقد يبدو من خلالهما أن ايران معنية بالوضع الشيعي في العراق، بينما السعودية معنية بالوضع السني. ولكن هذا الأمر يمكن تجاوزه نحو حالة من التفاهم، حين يتم التركيز على ضرورة صياغة دستور عراقي جديد يقوم على مبدأ «المواطنية»، التي تحفظ لكل عراقي حقوقه السياسية الكاملة. إن مبدأ «المواطنية» هو الذي يستطيع وحده أن يستوعب القضية الطائفية، وأن يعالجها بالتحرك بها نحو الأمام وليس نحو الخلف، نحو التعاون وليس نحو الاختلاف والاقتتال.

ويبقى السؤال الأساسي هنا: هل سيكتفي الرئيس الأميركي بعد زيارته للأردن، وبعد اجتماعه مع الملك عبد الله الثاني ومع نوري المالكي، هل سيكتفي بالاستماع إليهما، أم أنه سيكون قادرا على رؤية الساحة السياسية على مدى اتساعها؟ هل سينشغل بايجاد حل سياسي للأزمة في العراق، التي هي وليدة سياساته وسياسات قادته العسكريين، أم سينشغل بالتحريض على ايران ومحاولة حشد الأنظمة العربية ضد ايران الدولة؟ وأساسا هل سيفكر بوش بإيجاد حلول لمشكلات عالقة، أم سيكتفي بترداد جمله الطنانة القائلة: لن أسحب الجيش وهو في أرض المعركة. أو لن أسحب الجيش قبل أن يحقق أهدافه؟ لقد بات حريا بالرئيس الأميركي أن يفكر كرئيس دولة لا كقائد فرقة عسكرية.