أيام فاتت

TT

أي شيء سري يحرك في الناس غريزة حب الاطلاع فيبذلون الغالي والرخيص لمعرفة ذلك السر، وهو في بلادنا العربية اعتياديا شيء تافه ولا يستحق أي سرية، وما يستحق السرية فعلا معروف لدى الجميع. بيد ان موضوع السرية يثير في نفسي اهتماما خاصا بسبب تجربة شخصية مررت بها مع نحو مائتي تلميذ ابتدائية في مدرسة العسكري في بغداد.

كان عصر يوم الاثنين يوم الكشافة والفتوة نتدرب فيه على محاربة العدو من دون أن نعرف من هو عدونا. وننشد نشيد «لاحت رؤوس الحراب» من دون أن نفهم كلماته. اجتمعنا في أحد أيام الاثنين استعدادا للتدريب ولاحظنا مدير المدرسة السيد محمد أمين يتشاور مع معلم الرياضة السيد جاسم المسؤول عن تدريبنا على محاربة العدو. قال له اختر البالغين منا واجمعهم في غرفة الصف السادس، والبقية يستمرون بالتدريب. أجابه السيد جاسم: ومن أين أعرف البالغين من غير البالغين منهم؟ فقال له المدير: انت معلم الرياضة ولازم تعرف البالغين وغير البالغين. دخل الاثنان في مناقشة حاول فيها السيد جاسم أن يقنع المدير بأن درس الرياضة لا يشمل فحص البلوغية. ولكن المدير ضاق ذرعا بكل ذلك فهز كتفيه وقال: اتصرف! هذا كتاب الوزارة يقول هالشكل. إذا تريد تعصي أمر الوزير، اعصي». وذهب في حال سبيله.

راح السيد جاسم ينظر فجأة في وجوهنا ثم ينتقي بعضا منا: انت عدنان تعال، وانت فوزي محمد اتبعه. وانت أبو شوارب، وانت.. وانت.. إلخ. اريدكم كلكم في غرفة الصف السادس.

لم يقع الاختيار علي، مما أثار في نفسي الهواجس. كيف عرف السيد جاسم أني لم أبلغ بعد؟ جلسنا ننتظر حتى عادوا إلينا بعد نصف ساعة فرحنا نتوسل بهم أن يعلمونا بما جرى. قال أحدهم إن المدير اجتمع بهم وألقى عليهم درسا عن مضار العادة السرية، قائلا إن من يزاولها يصاب بالسل درجة ثالثة. وكان ذلك في زمن يخاف فيه الناس من السل كما يخافون الآن من السرطان أو الإيدز.

سألت صديقي: وما هي العادة السرية؟ قال: سألنا المدير عنها فقال اسألوا آباءكم. قال له سعدون مصطفى: أبويه ميت. قال: اسأل جيرانكم.

فهمنا في ما بعد أن الوزارة بعثت بكتاب سري لكل المدارس تأمر المديرين بتحذير الطلاب من العادة السرية لأنها تضعف قدرتنا على محاربة العدو. يظهر أن أحد المسؤولين كان مبتليا بها، و بالطبع جاء الكتاب السري بدون أي شرح أو ملحقات علمية تساعد السيد محمد أمين على الشرح والبيان. اكتشفت في ما بعد أنه لم يكن في العراق أي شخص يعرف حقا ما يكفي عن العادة السرية. ولكنني قضيت مدة طويلة أعتقد أن أي كتاب رسمي يحمل كلمة سري أو سري للغاية على انه كتاب يتعلق بالعادة السرية. وعندئذ أحاول جهد طاقتي أن أطلع على محتوياته وأتلصص عليه عسى أن يحمل شيئا مفيدا عن هذه العادة غير المفيدة.