تغيير «القيادة المركزية» في قطر ..!

TT

هذا العنوان بالطبع مرّ بك وفيه الكثير من المجازفة ، ولكنني واثق بأن الأحداث تسير في هذا الاتجاه. وأعرف أن قرائي يثقون بتوقعاتي في معظم ما كتبت، فلقد كانت إلى حد كبير صائبة وتستند إلى معلومات دقيقة. ولندع عنا تلك الأضواء التي شهدناها في سماء الدوحة في افتتاح دورة الألعاب الآسيوية، فهناك لعبة أخرى تجري لتغيير القيادة المركزية في قطر، لا بد من لفت الأنظار إليها وذلك لأن مستقبل المنطقة برمتها متعلق بها. ورغم النصائح المخلصة التي جاءتني من أكثر من صديق بالتخفيف من الكتابة عن قطر، إلا أن الأحداث تفرض نفسها ولا بد لمهتم بمستقبل المنطقة العربية أن يتناولها دونما مواربة أو خجل.

لقد كتبت في السابق عن حوار الإخوان والأميركان، (جريدة الشرق الأوسط/ 25 نوفمبر 2003)، وكان الحوار قائما فعلا، رغم علو نبرة النفي «الإخواني». وكتبت مبكرا عن أن أمريكا ستغير سياستها في الشرق الأوسط (جريدة الشرق الأوسط/ 18 سبتمبر 2006)، وهذا ما نشهده الآن. وكذلك كتبت عن محتوى توصيات لجنة بيكر (جريدة الشرق الأوسط/ 13 نوفمبر 2006)، قبل أن تتسرب إلى جريدة الـ«نيويورك تايمز» العريقة. واليوم أكتب بحذر وثقة عن تغيير للقيادة في قطر ربما يحدث في غضون الأشهر القليلة المقبلة، وأعتقد أنني مصيب هذه المرة أيضا.

بداية، هل ستكون إحدى توصيات لجنة بيكر، هي تغيير القيادة في قطر؟ وهل من حق لجنة سياسية خارج الإدارة الأمريكية أن توصي بهذا التغيير الكبير؟ وهل ما استمع إليه الرئيس الأميركي جورج بوش في العاصمة الأردنية عمان، من القادة العراقيين، وما استمعت إليه وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس من نصائح لوزراء الخارجية العرب في منتدى المستقبل، هل هذا كله سيصب في قناعة أميركية تقبل بتغيير القيادة المركزية للقوات الامريكية في قطر؟.

ظني أن هذا ما سيحدث في المرحلة المقبلة. لأن المشكلة الحقيقية ليست في تدهور الوضع في العراق، وحتى في أفغانستان، وإنما في فشل القيادة المركزية الامريكية في قطر في فهم التطورات الميدانية لأسباب نأتي على ذكرها لاحقا، هذا الفشل هو الذي أوصل الأمور إلى ما هي عليه الآن في المنطقة من فوضى لا تبدو أنها خلاقة على الإطلاق، بل تنذر بمزيد من الاضطرابات وعدم الاستقرار. لذا يبدو أن أي تغيير في الوضع العراقي أو الأفغاني لن يتم إلا بتغيير القيادة المركزية في قطر. فلقد أثبتت الأحداث أن جون أبي زيد، قائد المنطقة المركزية التي تتخذ من قطر قاعدة لها، وتشمل جغرافيا المساحة الممتدة من مصر إلى أفغانستان، قد فشل إلى حد كبير في إدارة الحرب على الإرهاب. ودعك من كل ما قيل عن أصول جون أبي زيد اللبنانية، فالحقيقة أن معرفة أبي زيد بالمنطقة وأهلها ولغتها لا تزيد كثيرا عن معرفة أي جنرال أميركي آخر في المنطقة. ولربما يستطيع الفرد أن يقول ان معرفة القائد الاسبق أنتوني زيني، الأميركي القح، وجنرال المارينز، بالمنطقة هي أفضل من معرفة أبي زيد ذي الأصول العربية.

كل المؤشرات تقول بفشل جون أبي زيد بمهمته، وأوضح علامات هذا الفشل هو التدهور الأمني المخيف في العراق الذي دخل الآن ما يقرب من الحرب الاهلية. وعلامة أخرى واضحة للعيان وما زالت تحير المواطن الأميركي العادي، وهي أن ابن لادن وصديقه الظواهري ما زالا على قيد المعركة والحياة، رغم كل ما أنفق من بلايين الدولارات للقبض عليهما. كما أن الملتحقين بصفوف تلك المنظمة الهلامية التي تسمى بـ«القاعدة» يتزايدون، والأموال تتدفق إليها من كل حدب وصوب، على غفلة من أبي زيد، وفي معظم الأحيان على مقربة منه، فجوازات سفر «مناضلي القاعدة» قد تستخرج على بعد كيلومترات من قاعدته، وتصدح الأصوات المروجة لهم على مرمى حجر من قاعدته أيضا، حتى أن الأمر اختلط علينا، فلم نعد نعرف عن أي «قاعدة» نتحدث.. أهي «قاعدة» أبي زيد، أم «قاعدة» ابن لادن؟!.

شهادة الجنرال جون أبي زيد أمام الكونغرس الأميركي، التي بدا فيها متمسكا برؤية وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد، وكذلك حديثه الأخير في جامعة «هارفارد» والذي حذر فيه من حرب عالمية ثالثة طرفاها، الغرب والاصولية الإسلامية، يكشفان عن خلل بنيوي في الرؤية الاستراتيجية لدى الجنرال، كذلك يوحيان بأنه يحلق بعيدا عن التطورات الميدانية وعما يحدث على الأرض في منطقة نفوذه، ويتجه إلى التنظير الاستراتيجي. ومن الطبيعي أن التصاق جون ابي زيد برؤية رامسفيلد، وكذلك تنظيراته البعيدة عن الواقعية، لن يروقا لعقل وزير الدفاع الأميركي الجديد روبرت غيتس الذي عمل سابقا كرئيس للمخابرات المركزية الأميركية، تلك المؤسسة التي تعتمد على الربط اللصيق بين التصور الاستراتيجي والواقع الميداني. إضافة إلى أن الوزير غيتس يأتي إلى الوزارة في إطار ما تسميه لجنة بيكر بـ«التوجه الاستراتيجي الجديد» New Strategic Direction، الذي يفرض على الوزير تغييرات على مستوى سياسات وزارة الدفاع، وكذلك على مستوى التنفيذيين القائمين على تنفيذ هذه السياسات. إذا كان جون أبي زيد ليس رجل غيتس في المنطقة نظرا للتباعد في رؤية الرجلين، الاستراتيجية والعملياتية والنتائج المرجوة، ترى من سيكون قائد المنطقة المركزية الوسطى في قطر؟

أعتقد أن الجنرال ديفيد باتريس، الذي يعمل الآن تحت إمرة أبي زيد كمسؤول عن بناء القوات المسلحة العراقية وأجهزتها الأمنية، هو الأقرب إلى عقلية غيتس من كل القادة الميدانيين الذين يعملون في المنطقة الممتدة بين مصر وأفغانستان. ورغم أن الجنرال باتريس من ذوي الثلاثة نجوم، إلا أنه نجح في معظم مهماته في العراق، ويتمتع بمصداقية في الميدان وفي واشنطن. وقد يدفع ذلك وزير الدفاع الأميركي الجديد إلى ترقيته لجنرال بأربعة نجوم، كأبي زيد، ومن ثم يسند إليه قيادة المنطقة المركزية الوسطى.

ماذا يعني اختيار ديفيد باتريس قائدا للمنطقة المركزية الوسطى؟.

أول ما يعني هذا التغيير هو تغيير في استراتيجية العمل، وأساليب المواجهة بين القيادة المركزية والتنظيمات الارهابية في المنطقة. الاستراتيجية الجديدة تعتمد على شقين، شق سياسي وشق عسكري. فقد نرى مزيدا من الزيارات للقائد الجديد لدول الجوار العراقي ودول المنطقة المهمة بهدف تنسيق الإجراءات الأمنية التي تحد من دخول الإرهابيين إلى العراق، كما أنه سيطالب بزيادة عدد القوات الاميركية في المنطقة بما يتناسب مع حجم الخطر، وقد يرى الجنرال الجديد ضرورة المواجهة وليس الحوار مع إيران!.

ديفيد باتريس، أو أي جنرال آخر سيحل محل جون أبي زيد، لا بد له أن يكون جزءا من التوجه الاستراتيجي الجديد للإدارة الأميركية، ولا بد له ان يكون أكثر جرأة، وربما أقل دبلوماسية من سابقه في شرح الأوضاع الميدانية لواشنطن ودول الجوار. قرأنا تسريبات مستشار الأمن القومي ستيفن هادلي لجريدة الـ«نيويورك تايمز»، والتي كانت تصب في تغيير رأس الحكومة العراقية. الحقيقة أن استقرار العراق والمنطقة يتطلب تغييرا ليس في الجانب العراقي فحسب، بل تغييرا في كلا الطرفين: الحكومة العراقية، والإدارة الاميركية. وتغيير القيادة المركزية الامريكية في قطر هو جزء من التغيير الشامل الذي تفرضه معادلة الاستقرار الجديدة.

وأيا كانت بهرجة الأضواء التي ملأت سماء الدوحة في افتتاحها لدورة الألعاب الآسيوية، فإنها لن تحجب عنا رؤية اللعبة الأهم، وهي تغيير القيادة في قطر.