ريتشارد هاس والشرق الأوسط الجديد

TT

في مقاله المعنون «الشرق الأوسط الجديد» المنشور في مجلة «شؤون أجنبية» (أكتوبر ـ نوفمبر) 2006 يبصر ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة، جزءاً من حقيقة ما يجري في الشرق الأوسط ويعجز عن رؤية الصورة الكلية نتيجة التزامه بثوابت فكرية ومفهوماتية تحصره داخل الرؤية الاستعمارية الأمريكية والمصالح النفطية. لقد كان محقاً في نتيجة تحليله «أن سيطرة الولايات المتحدة على الشرق الأوسط تشهد نهايتها، وأنّ الحرب على العراق كانت بداية النهاية، وأن حقبة جديدة في تاريخ المنطقة قد بدأت، وأنه على واشنطن أن تعتمد على الدبلوماسية بدلاً من القوة العسكرية من أجل التأثير في المرحلة الجديدة». كما كان محقاً حين توقّع «أن الحقبة الجديدة في الشرق الأوسط سيصنعها لاعبون محليون على حساب اللاعبين الخارجيين، وأنّ صياغة الشرق الأوسط من الخارج ستكون أكثر صعوبة، وبالإضافة إلى تدبير آسيا الديناميكية فإنّ صياغة الشرق الأوسط ستكون التحدّي الأكبر للولايات المتحدة ربما لعقود قادمة».

لا شكّ أنّ هذا التحليل صحيح ودقيق، وهو ناتج عن قناعة ريتشارد هاس وآخرين أنّ القوة العسكرية قد فشلت، هذه المرة أيضاً، في كسر إرادة العرب في الكفاح من أجل الحرية، وأنّ صمود العرب في فلسطين ولبنان في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية الغاشمة وحليفتها الأمريكية قد فتح أفقاً هاماً للمؤمنين بعروبتهم، وبأنّ القوة العسكرية عاجزة عن قهر إرادة الشعوب العربية المدافعة عن حريتها واستقلالها. وعلّ ما نشرته النيويورك تايمز في عددها الصادر في الأول من ديسمبر 2006 يصبّ في الاتجاه ذاته وهو أنّ الحروب لا تقضي على الشعور بالانتماء القومي، بل على العكس فهي تعزّز ذلك، وقد خرج العرب من دمار الحروب، هذه المرة أيضاً، أكثر تشبّثاً بهويتهم العربية: فقد استعرضت المقالة المذكورة لجوء عدد من اللبنانيين بعد حرب تموز 2006 الهمجية، التي شنّتها إسرائيل على لبنان، للتعبير عن صمودهم ودعمهم للمقاومة من خلال الفنّ والأغاني التي تعبّر عن الانتماء الوطني بعيداً عن الطائفية التي يحاول الاستعمار الأمريكي الإسرائيلي أن يُجذّرها في أذهان العرب. ولا شكّ أن صمود الشعب الفلسطيني في وجه الجرائم الإسرائيلية البشعة المتواصلة يومياً يترك القوى الاستعمارية المعادية لهذا الشعب في حيرة من أمرهم، حيث تتمسك النساء والأطفال بتراب أرضهم رغم ألوان المعاناة الفظيعة التي يفرضها عليهم الاحتلال الإسرائيلي المقيت. ومن ضمن أوجه الصمود الجديدة التي ابتكرها هذا الشعب المؤمن بعروبته الدور الجديد الذي أخذته النساء الفلسطينيات مؤخراً من الاستشهاد في سبيل فكّ الحصار الإسرائيلي عن المعتقلين، إلى الاعتصام بالعشرات في منزل أعلنت سلطات الاحتلال أنها تريد هدمه واضطرت إلى عدم هدمه بعد أن شكّلت النساء دروعاً بشرية لحماية المنزل. كما استشهدت المرأة الفلسطينية فاطمة نجار، التي هدموا بيتها وقتلوا حفيدها وبُترت يد الحفيد الآخر، فقررت وهي في الثامنة والخمسين من عمرها أن تستشهد انتقاماً لكلّ الظلم الذي مارسته قوات الاحتلال ضدّها وضدّ أهل بيت حانون. وفي لبنان وسورية وقطر ودبي صدحت جوليا بطرس بأغنيتها «منرفض نحن نموت، قولولن رح نبقى»، كما جالت السيدة العراقية فريدة محمد علي، مغنية المقام العراقية الأولى، عواصم شتى في العالم تغنّي المقام العراقي وتلهب قلوب الجماهير حباً وشوقاً للعراق الآمن المستقرّ. كلّ هذا وغيره الكثير يعني أن هذا الشعب الذي ما أن يوقعون به ضحية حروب وكوارث إلى أن يخرج بطاقات إبداعية أكبر تعبّر عن حبّ الحياة بحرية، وحبّ البقاء بعيداً عن الهيمنة الأجنبية التي أثبتت في العراق وفلسطين ولبنان أنها تستهدف بلداننا وحضارتنا وأمننا واستقرارنا رغم كلّ ادعاءاتها عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

ويدرك ريتشارد هاس في تحليله نتائج ما وصفتُه للتوّ، وهو التحول في الشرق الأوسط وبداية ظهور عوامل داخلية سوف تقود التغيير في البلدان العربية، ولكنّ تركيزه منصبّ على مسألتين أساسيتين؛ النفط والإرهاب، وسبل فرض هيمنة الولايات المتحدة كقوة استعمارية سائدة والطرق الأنجع للحفاظ على هذه الهيمنة. فهو يعترف بأنّ العراق أصبح فريسة للطائفية والفوضى دون أن يُحمّل الاحتلال الأمريكي مسؤولية ما يجري في العراق، ودون أن يحمّل الاحتلال الإسرائيلي مسؤولية ما يجري في فلسطين ولبنان والجولان، ويعتبر القومية العربية من الماضي ويتوقّع أن يشتدّ العداء بين السنّة والشيعة وأن يخلق ذلك مشاكل في البحرين والسعودية ولبنان، وبشكل غير مناسب يعتبر حركات المقاومة إرهاباً، مع أنه وفق تعريفه للإرهاب «الاستخدام المقصود للقوة ضدّ المدنيين لتحقيق أهداف سياسية»، فإنّ إسرائيل هي التي تمارس الإرهاب يومياً وعلنياً وضمن سياسة حكومية معلنة للاغتيالات والتفجيرات ضدّ الفلسطينيين. كما يتوقّع في ضوء النزاعات التي سوف تنشب أن يزداد الاعتماد على الجيوش الخاصة والتي سوف تؤدي إلى تشغيل معامل السلاح، ومن الواضح أن تجربة الولايات المتحدة في العراق والحرب الإسرائيلية على لبنان هي التي دفعت هاس أن ينصح بعدم الاعتماد كلياً على القوة العسكرية واللجوء إلى الدبلوماسية.

وها نحن نلحظ نشاطاً دبلوماسياً في المنطقة: زيارة بوش التي «أعطى» المالكي فيها «فرصة أخرى» لإصلاح ما أفسدته الولايات المتحدة بعد أن أعلن أكثر من مرة دعمه لأشخاص هنا وحكومات هناك. كما عبّرت رايس عن قلقها على جلعاد شاليت، وحرصها على نجاح أشخاص أُخر وتكليفهما بين هذا وذاك آخرين بمسؤوليات ووساطات كلها لن تجدي نفعاً أمام التحرّك الجوهري الذي بدأ يكبر في قلوب العرب والذي سيضع حداً لكلّ الارتهانات التي يضعها البعض على القوى الاستعمارية في مستقبل ليس بالبعيد. في مقاله يقدّم هاس نصائح إلى الولايات المتحدة من أجل الاستمرار في إحكام السيطرة على نفط العرب، غير مدرك أن العرب جميعاً من المغرب إلى الكويت بدأوا بمرحلة جديدة من الوعي الوطني والذي سوف يتبلور إلى أعمال تضمن استقلالهم الحقيقي خلال الحقب القادمة. لقد استعرض هاس الحقب الاستعمارية التي مرّت على هذه الأمة وهي ليست بالقليلة أو القصيرة ولكنّ فجر الاستقلال الحقيقي والديمقراطية الحقيقية للشعوب العربية بدأ يشرق، ولن تفيد محاولات الولايات المتحدة لتبني أشخاص هنا وآخرين هناك وإعطاء ضوء أخضر لزجّ قادة حقيقيين في السجون لأن «الشعوب في النهاية هي التي سوف تقول كلمتها» والحقيقة التي أكّدها كفاح الشعوب طوال التاريخ الحديث هي رفضها كلّ القوى الاستعمارية بما في ذلك الولايات المتحدة وقادتها ومفكريها حتى اللحظة الأخيرة.

لقد كلّفت هذه الحقبة الاستعمارية الأخيرة العراق وفلسطين ولبنان الكثير ولكنّ الشعور العربي القومي لم يأفل ولم يخفت التضامن أبداً بين الشعوب العربية، طالما أنّ الدار البيضاء تنتفض اليوم لفلسطين، والكويت تحتفل بانتصار المقاومة، والسودان تختلج مع مشاعر التحرّر والاستقلال في لبنان فإنّ أحداً، مهما بلغ جبروته العسكري، لا يستطيع أن يحكم على توق العربي للحرية والكرامة بالموت. على العكس من ذلك فإن شمس المتاجرين بهويتهم وأوطانهم آخذة في الأفول، وعلّ ما نشهده اليوم هو التشكّل الحقيقي للمواطنية الحقيقية الشفافة التي لا تهادن ولا تساوم على وطن أو شعب أو مصلحة وطنية أو قومية. وإذا ظنّ البعض أنني أضخم من مقدرات هذه الأمة وآفاقها المستقبلية فلينظروا إلى أمريكا الجنوبية التي استغرقت بضعة عقود لتتخلص من هيمنة الولايات المتحدة على مقدراتها وتعيد مقاليد الأمور إلى أبنائها الأصليين. لا شكّ أنّ ريتشارد هاس محق أنّ الشرق الأوسط الجديد لا يمكن التحكم به بالوسائل العسكرية، ولا يمكن التحكم به من الخارج فقط، لأن العوامل الداخلية بدأت بالتفاعل الحقيقي. لقد كانت كونداليزا رايس محقّة أيضاً في أن مخاض الشرق الأوسط الجديد قد بدأ، ولكنه مخاض يختلف في الطبيعة والتوقيت عما تتخيله وتتوقعه وترغب به. سيكون مخاضاً على مدى سنوات ولكنه سيعيد وجه الشرق الأوسط العربي الجديد إلى أبنائه الأصليين الذين سيعبرون عن مصالح شعوبهم وطموحاتها بعيداً عن الهيمنة الأجنبية والإملاءات المذلّة خدمةً للمصالح الأمريكية. حينذاك فقط سيعمل النساء والرجال العرب على إصلاح مناهجهم التعليمية وشؤونهم الاقتصادية ويحققوا ديمقراطياتهم السياسية بعد أن يحققوا الاستقلال الحقيقي عن الشره الأمريكي للنفط، ويعيشوا جميعاً المواطنية الحقيقية بعيداً عن فتن الطائفية والعرقية التي عمد الاستعمار دائماً إلى إشعال أوارها بينهم.