أفريقيا السمراء .. تنظر عبر المحيط أم عبر الصحراء؟

TT

مفكرون غربيون صوروا الصراع الدولي بعد الحرب الباردة، التي تحكم فيها الصراع الثنائي، سيتحكم فيه الصدام أو الوئام بين الحضارات.

الحضارة كائن فضفاض لا تجمع بين شعوبه آيديولوجية ولا مصلحة اقتصادية واحدة. والصدام أو الوئام وارد في مجالات: الأديان ـ اللغات ـ التحديث والمجتمعات التقليدية ـ العولمة والخصوصيات الثقافية ـ الشمال الغني مقابل الجنوب الفقير ـ والهيمنة الدولية مقابل التعددية الدولية.

ماضي الإسلام بأفريقيا:

دخل الإسلام أفريقيا مبكرا وانتشر سلميا للآتي:

التواصل الجيوسياسي والثقافي والاقتصادي والبشري بين شعوب غرب آسيا، وشمال أفريقيا، وأفريقيا جنوب الصحراء.

شعوب جنوب الصحراء متدينة بخليط من إيمان بخالق أعلى، وآلهة دونه، وقوى سحرية، وطبيعية، وتقديس الأجداد. وضوح عقيدة التوحيد الإسلامية وخلوها من التعقيد سهل هضمها وقبولها.

تمدد الإسلام غالبا صوفيا. وبالصوفية تسامح سمح بتأقلمه مستصحبا بعض الثقافات المحلية.

كان الإنسان الأفريقي وما زال يعاني اضطهادا إثنيا ولونيا. المساواة الإثنية واللونية في الإسلام كانت بلسما.

الإسلام زود كثيرا من شعوب أفريقيا بعقيدة مقاومة الاستعمار وصار جزءا من جهاز المناعة الثقافية فيها ضد تيارات الاستلاب الوافدة.

استعداد الإسلام لقبول التعامل الإيجابي مع الأديان الأخرى الكتابية وغيرها.

ماضي المسيحية بأفريقيا:

المسيحية بأفريقيا شمال الصحراء وبالقرن الأفريقي– أي الأرثوذكسية ـ انتشرت باكرا سلميا وصارت مكونا ثقافيا وطنيا. والمسيحية جنوب الصحراء– الكنائس الغربية الكاثوليكية والبروتستانتية ـ انتشرت تحت حماية ودعم السلطان الاستعماري، فتوفرت لها ميزات مادية ومعنوية، ولكنها محملة بتراث ثقافي أوربي، جعل استيطانها بالبيئة الأفريقية يواجه صعوبات، عبر عنها أفارقة كثيرون بأفرقة الكنائس وبالعزوف عن أسماء التعميد، التي أطلقت عليهم.

كشف الحساب الحاضر

الخصام أو الوئام في المجالات الستة المذكورة سيقرر مصير أفريقيا. وإذا تأملناها الآن نجد:

أولا: حساب الإقبال الديني يميل لصالح الإسلام، لنفس الأسباب التي ساهمت بانتشاره، ولزوال دعم السلطات الاستعمارية للكنائس، رغم أن التبشير المؤهل بإمكانات بشرية ومادية هائلة يوفر بعضه الآن.

ثانيا: بالنسبة للغات، اللغة العربية في أفريقيا شمال الصحراء غالبة وإن صارت تواجه مطالب مجموعات وطنية غير عربية للاعتراف بلغاتها وثقافاتها. وتشكل في جنوب الصحراء مرجعية لبعض لغات التخاطب الكبرى كالسواحيلية بشرق أفريقيا، والهوسوية بغربها. وللعربية علائق سامية مع أهم لغات القرن الأفريقي كالأمهرية والتقرنيا. ولكن حساب اللغات يميل لصالح الأنجلوفونية والفرانكفونية كلغات رسمية، ولغات تخاطب عام وتعليم.

ثالثا: الحداثة تكونت وانتشرت من أصول غربية رفدتها الثقافات الأخرى، وتتمدد اليوم بأفريقيا على حساب الثقافات التقليدية، ومع اتخاذها طابعا علمانيا فإنها تنحاز للمسيحية. والصورة في جدلية التحديث والتأصيل، أن المسيحية جزء من جبهة التحديث، والإسلام جزء من جبهة التأصيل.

رابعا: العولمة كدرجة أعلى من التحديث منطلقة من قيادة غربية وتعرض على المجتمعات العالمية هيمنة تقاومها الخصوصيات الثقافية ويشمل الإسلام رافدا مهما فيها.

خامسا: شمال الكرة الأرضية اليوم غالبا، غني ودوله حققت طفرة تنموية. والجنوب أفقر ودوله نامية مما خلق استقطابا شماليا جنوبيا. صارت العولمة تمثل هيمنة الشمال، مقابل اجتهادات إسلامية تمثل آيديولوجية مقاومة سلطانها في كثير من مناطق الجنوب، وتتحالف معها تيارات ذات أهداف مماثلة حتى في الغرب نفسه.

سادسا: تشكل الصحراء الكبرى فاصلا جغرافيا مهما. هنالك عوامل ثقافية واقتصادية كثيرة ساهمت في الماضي في مد الجسور بين شقي الصحراء الكبرى، أهمها الإسلام الذي صار بانتشاره واصلا بين جناحي أفريقيا. وعندما سيطرت الدول الاستعمارية على أفريقيا جنوب الصحراء حولت الصحراء إلى عازل جيوسياسي لحد كبير. وبعد تراجع الفكر الماركسي، الذي انتمت إليه كثير من القيادات الجديدة في أفريقيا لجأ بعضها إلى الانتماء الإثني، فصار ينظر للأفريقية بمنظار قائم على العرق واللون، حتى أن الرئيس اليوغندي يوري موسيفيني اعتبر «الأفريقي» المستحق لهذا الوصف: الأسود المقيم جنوب الصحراء، والأفريقي بالدرجة الثانية: النازح من هؤلاء إلى أماكن أخرى، والأفارقة بالدرجة الثالثة: «بيضان» شمال أفريقيا، وبالدرجة الرابعة: البيض المستوطنون! المسلمون غالبا يقفون مع الوحدة الجيوسياسية لأفريقيا، ولكن كثيرا من المسيحيين والعلمانيين، يجدون تأييدا من بلدان غربية، يدعمون الفواصل بين شقي أفريقيا.

ثراء الموارد الطبيعية جنوب الصحراء يغذي صراعا دوليا على خصوصية العلاقة مع بلدانها. وأمريكا تطمع أن تزيد استيرادها من النفط الأفريقي وتتخذ من القرن الأفريقي الكبير خط دفاع ثانيا لمصالحها في الخليج. وفرص إسرائيل في علاقات قوية مع أفريقيا تتحسن، كلما ابتعد جنوبها عن شمالها.

الغربيون والكنائس يعملون بالقارة، في مجالات التنافس المختلفة، وفق استراتيجيات مدروسة غائبة تماما لدى المسلمين. ورغم ذلك فالمدهش أن الإسلام كدين ينمو رغم قلة حيلة المسلمين.

هل لهذا الضعف نهاية؟

الدول ذات الأغلبية المسلمة، المستعمرة سابقا، جربت نظم حكم ديمقراطية ليبرالية. ومع قبول واسع لقيم الديمقراطية فيها، فالديمقراطية لم تستقر لعجزها عن التأقلم الثقافي والاجتماعي ولتعرضها لتآمر النخب الطموحة المدنية والعسكرية.

أثناء فترة التحرير الوطني تبنت كثير من النخب القيادية في البلدان الإسلامية الأطروحة الماركسية، فاقتبست منها فكرا لمقاومة الاستعمار وأساليب تنظيم حديثة ساهمت في حركة التحرير الوطني. ولكن الماركسية تخلفت عن الإحاطة بالواقع، لاختزالها الشأن الإنساني كله في المادة، والولاء السياسي في الطبقة، وحصرها الكسب الاقتصادي في اليد العاملة، فخاب برنامجها الاقتصادي ورؤيتها السياسية، لا سيما في التجربة السوفياتية.

كثير من النخب العربية عجنت الاشتراكية في خلطة قومية، كالبعثية والناصرية. ولكن المشروع النهضوي العربي الحديث حجمته عيوبه الداخلية والمواجهات الخارجية له.

الحنين الإسلامي لماض أمجد لم يغب عن عقول وقلوب المسلمين. ودفعته إخفاقات المشروعات الاشتراكية والقومية للتطلع لمشروع نهضوي إسلامي، تجاربه حتى الآن منيت بكثير من الإخفاقات، لا سيما ربط الشعار الإسلامي في المقاومة بالعنف العشوائي وربطه في السلطة بالاستبداد. فأدى تطبيق هذه الشعارات من دون دراسة كافية للواقع لتمزيق البلدان، ولمنافذ واسعة للتدخل الأجنبي.

تجاوز الدين كما في المقولة العلمانية، أو الاكتفاء بصورته النقلية، كما في المقولة الإنكفائية، يناقضان مطلبين موضوعيين هما التأصيل والتحديث.

التحدي الماثل هو اجتهاد إسلامي قادر على التعامل التسامحي مع التعددية الدينية، واستصحاب إيجابيات الحداثة والعولمة، وكفالة حقوق الإنسان، وحشد الطاقات لتحقيق الحكم الراشد والتنمية البشرية، والعدالة الاجتماعية، والعلاقات الدولية القائمة على السلام والتعاون. إن نصوص الوحي الإسلامي القطعية تتسع لهذا الاجتهاد، الذي يلبي حاجات الإنسان الأفريقي وتطلعاته، بل يبرز التأهيل الكامن في الإسلام مرجعية للإنسانية كافة: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ).