محنة لبنان: وفاق قتيل.. وتوافق كاذب

TT

عرض العضلات في وسط بيروت كان متوقعاً بعد أسابيع من الشحن والتخوين وليّ الحقائق.

فالقوة التي تشكل العمود الفقري للحشد المعتصم بحبل الله في ساحة رياض الصلح ومحيطها «تمون» طائفياً على ثلث اللبنانيين، وتشكل رافعة لشراذم مختلفة من المثاليين والدوغماتيين والسذج المأجورين قد تصل بالعدد إلى نصف اللبنانيين.. أكثر أو أقل.. لا يهم.

المهم أن هذه القوة، بعكس «الواجهة» التي اختارتها لمخاطبة الحكم والشعب في أول أيام الاعتصام.. تجيد السياسة. إنها فعلاً تجيد لعبة السياسة وتحسن المناورة، وتعرف ما تُظهر وما تُبطن، ومتى تُظهر ومتى تُبطن.

وبعكس «الواجهة»، أيضاً، تتقن القتال حيث تدعو الحاجة وتسمح الترسانات المخزنة والمنقولة.. ولا سيما القتال ضد العدو ـ لا الأشقاء ـ حتى إشعار آخر.

ثم أن المشكلة لم تكن في يوم من الأيام في لبنان القدرة على حشد الناس. فلا أحد أنكر في يوم من الأيام أن في لبنان «فريقين»، بل هناك فرق وزمر وأشتات وعشائر على مد النظر، لا تجمعها مصيبة ولا تلمّها قناعة. ولعل هذه الحقيقة، بالذات، هي السبب في ادعاء هذه القوة الحرص على مشاركة «الكل» رغم تخوينها المستمر لـ«البعض».

إلا أن الأزمة المزدوجة مع هذه القوة أنها تسعى أيضاً إلى مصادرة الوطن «كله» تحت ذريعة الحصول على «بعضه». وأن منظورها السياسي العام واضح جداً بينما هي عاكفةٌ وبإصرار على إسقاط الحكومة اللبنانية، بضغط الشارع، بحجة أنها حكومة خائنة غادرة رئيسها الحقيقي السفير الأميركي!

فهي جزء من نظرة ثيولوجية ـ آيديولوجية صريحة إلى العالم، وإلى مفاهيم الحق والعدالة، في كل مكان وكل زمان. وفكرها الديني ـ السياسي يقوم على «ثابت» واحد.. كل ما عداه يدخل في عداد «المتحولات»، وهذا «الثابت» هو «ولاية الفقيه».

وبالتالي، إذا ما تذكّرنا أن السيد علي خامنئي، مرشد الثورة الإسلامية في إيران، هو في نظرها «نائب المهدي»، تصبح كل الشعارات الجذابة الأخرى المتصلة بالتعايش والمؤسسات والديمقراطية والتحرير والعروبة وسيادة لبنان واستقلاله.. مسائل اجتهادية خاضعة للظروف والمصالح.

عند هذه النقطة لا يعود على هذه القوة ـ التي اسمها «حزب الله» ـ أي حرج. فهي، في الأقل صادقة مع نفسها، وتعرف ما تريد، وتدرك أفضل السبل للحصول عليه.

لكن هذا، مع الأسف، لا ينطبق على الشراذم التي تستخدمها كـ«ديكور» ملوّن بداعي التنوّع، وبخاصة إذا كانت هذه الشراذم ما زالت تتوهم أنها ستظل قادرة على التحكم في سير الأمور إذا أكملت مسيرة التغيير الموعودة سوق البلاد نحو الهاوية.

أولى الشراذم طبعا شرذمة الغطاء المسيحي المزعوم الذي يوفِّره النائب ميشال عون. وما هو ظاهر للمراقب الحصيف أن ثمة «محاولة استنساخ» منقوصة هنا لتحالف طائفي تكتيكي إقليمي مشابه ضد كتلة طائفية ثالثة. ولكن، أغلب الظن، أن غريزة الشارع المسيحي أكبر من إدراك مفكري «التيار» العوني في ضرورة تحاشي زجّ المسيحيين اللبنانيين في أتون فتنة طائفية خطيرة على الطراز العراقي. كما أحسب أن العقل المسيحي أكثر قدرة على التمييز بين الأحزاب «الطائفية» ـ التي ينطبق مسماها اليوم على كل الأحزاب والقوى اللبنانية تقريباً ـ والأحزاب الثيولوجية كـ«حزب الله».

أما ثاني الشراذم، فلفيف الأحزاب العقيدية العلمانية سابقاً، التي ارتقت صفوفها خلال العقود الثلاثة الفائتة قيادات بارعة في فن التعايش مع «الدولة الأمنية» وفصيحة في إيجاد المبررات التقدمية للقهر الاستخباراتي، و«شاطرة» في الاستفادة المادية منه.

وأما الشرذمة الثالثة، فتضم جماعات «الاختراقيين» ـ وهذه كلمة وفّق رئيس الحكومة السابق الدكتور سليم الحص في ابتكارها من حيث يدري أو لا يدري ـ.

هذه الجماعات تعتمد على «حزب الله» في رعاية أمورها ومصالحها والاستشهاد «بوطنيتها» في سياق محاربته التكتلات الطائفية داخل الطوائف غير الشيعية. وهذا طبعاً.. بينما يسهر هو على منع حدوث «اختراقات» في معاقله الطائفية، ولو وصل الأمر إلى التحريم من على منابر المساجد.. كما لوّح بذلك ذات يوم الشيخ عفيف النابلسي رئيس هيئة علماء جبل عامل.

إن الصورة في لبنان أكثر خطورة، والمستقبل مظلم، لأن الوفاق الحقيقي نحر عن سابق تصور وتصميم.. بأيدي التوافق الكاذب.