في ذمة الله

TT

لقد سمعت في حياتي كثيرا من الخطب والقصائد في نعي شتى الأعزاء والأحباء من أقارب وغرباء. وفي كل مرة كنت أقول: «يا للأسف! كل هذا الكلام الحلو والفقيد غير قادر على سماعه». الواقع أن حياتنا ستكون أجمل وأسلم، لو اننا نعينا بعضنا البعض في حياتنا وعاكسناهم وشتمناهم بعد مماتهم.

أوجه مثل هذا الكلام لنفسي بصورة خاصة. فمما أتذكره قبل سنوات انني كتبت كلمة في رثاء صديقي بلند الحيدري من ارق ما قلته بحق أي شخص حيا أو ميتا. كل ذلك بعد حياة طويلة لم يتلق فيها المرحوم مني غير الشتم والتقريع والمهاوشة. أقول مثل ذلك عن زميل الأمس الآخر نجيب المانع. كنا نشتغل في غرفة واحدة في مبنى هذه الصحيفة. ولا أتذكر انني طوال تلك الأيام قلت له كلمة واحدة لطيفة. ولكن ما أن انتقل الى دار الآخرة حتى تناولت القلم ورحت اصيغ اعذب الكلام في رثائه. وما فائدته من ذلك؟ مصيبتي في الأمر ان المرحوم نجيب كان أذكى مني فمات قبلي وحصل مني على كل ذلك المدح. وعندما سأموت انا لن يكون هناك لأحصل على أي مدح منه. وفي هذا شيء من الظلم والاستغلال للأحياء.

لهذا ارى من الحكمة والعقل والعدالة ان نبادر الى رثاء بعضنا البعض اثناء حياتنا. وهو في الواقع ما يفعله بعض الكتاب الغربيين لبعضهم البعض. كان من ذلك ما كتبه الناقد الانجليزي مكس بيربم في رثاء زميله برناردشو أثناء حياته. اقترح ان يكتب على شاهد قبره هذه الكلمات:

«انا جورج برنارد شو. لقد تخانقت مع الجميع. ووجدت الجميع يستحقون المخانقة. وكرهت الطبيعة وكرهت الفن اكثر من كرهي للطبيعة. ووقفت على جليد الأرض لأبرد قدمي فانكسر تحتهما، فضرطت أعظم ضرطة!».

بودي ان اكتب رثاء للكثير من زملائي وأصدقائي في عالم الشعر والأدب والسياسة اثناء حياتهم. ربما يتصور القراء انه لم يبق لي أي اصدقاء بعد تأييدي للغزو الأمريكي للعراق. ولكنني اؤكد للجميع بأن مازال لي اصدقاء وأحباء كثيرون، اخص بالذكر منهم كل من سرقوا الملايين من أموال العراق، وأتمنى ان ارثيهم من كل قلبي، ولكن هذه الصحيفة لا تؤمن برثاء الأحياء مع الأسف. و كم منهم يستحق اقوى الرثاء. استطيع على الأقل ان ارثي نفسي فأقول:

«هنا يرقد رجل لم يؤمن برجولته. آمن بالوحدة العربية فتمزقت. آمن بالاشتراكية ففشلت. صدق حكومة جورج بوش وكذبت، استبعد قيام الطائفية وتفجرت، وقف ليحاضر عن مستقبل العراق فوجد سرواله مفتوحا فآمن برجولته».