«ماراثون» الحوار الفلسطيني الطويل: نهاية بلا نتائج

TT

إنها النهاية المتوقعة.. فمنذ البداية، أي منذ بدأ الحوار قبل ستة شهور لتشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية، لم تكن حركة «حماس» مستعدة للقبول بغير الحكومة التي في ذهنها ولم تكن مستعدة للقبول ببرنامج سياسي لهذه الحكومة إلا برنامجها السياسي وكان هدفها من هذا الحوار هو التلاعب بعامل الوقت انتظاراً لمستجدات إقليمية تعتقد أنها ستضع في يدها أوراقاً جديدة وتحسن مواقعها التفاوضية.

لم يكن خافياً لا على محمود عباس (أبو مازن)، ولا على كل من في رأسه عقل، أن «حماس» اختارت مبكراً الانحياز للتحالف الإيراني ـ السوري، مثلها مثل حزب الله وبعض الميليشيات العراقية الطائفية، وأنها بالتالي لا يمكن أن تُقدم على أي خطوة، لا رئيسية ولا ثانوية.. لا استراتيجية ولا تكتيكية، إلا بالتنسيق مع هذا الحلف وفي الاتجاه الذي يخدم أهدافه وتطلعاته.

من غير الممكن، وهذا لم يكن متوقعاً وهو لا يزال غير متوقع، أن تُقدم حركة «حماس» تنازلات لا للرئيس الفلسطيني محمود عباس، ولا لغيره، بينما التحالف الذي تعتبر نفسها جزءاً منه وعضواً أصيلاً فيه يشن هجوماً معاكساً في لبنان ويشدد قبضته في العراق وبينما تعزز الشعور لديه، أي لدى هذا الحلف، بأن الأميركيين لم يلجأوا الى مغازلته وطرْقِ أبوابه إلا لأنهم شعروا بأن مشاريعهم في هذه المنطقة قد فشلت وأن عليهم أن يبحثوا عن مخرج من الورطة التي أصبحوا فيها يحفظ لهم ماء الوجه.

لقد كان «أبو مازن» يعرف هذا وكان يعرف أن القرار، بالنسبة لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية وبالنسبة لاستبدال برنامج «حماس» المتشدد ببرنامج أكثر اعتدالاً وتلاؤماً مع استحقاقات العملية السلمية، ليس في يد إسماعيل هنية وإنما في يد خالد مشعل المقيم في دمشق والذي يبدي حماساً لـ«فسطاط الممانعة والمقاومة» لا يبديه حتى الشيخ حسن نصر الله.

لكن الرئيس الفلسطيني ورغم أنه يعرف هذا كله، ويعرف أكثر منه، بقي يكابد مشقة حوار بدا منذ البدايات أنه بلا نهاية وبلا نتيجة أيضاً، والسبب هو أنه لا يريد أن يسجل التاريخ عليه أن حرباً أهلية فلسطينية نشبت في عهده وأنه جاء الى كرسي الرئاسة والفلسطينيون موحدون، ولو في الحدود الدنيا، وأنه غادره وكل فلسطيني يمسك بخناق الآخر بينما القضية الفلسطينية عادت الى نقطة الصفر.

هذا هو الذي كان يخيف «أبو مازن» وهو لا يزال يخيفه ويبدو أن «حماس» عرفت نقطة الضعف هذه لدى الرئيس الفلسطيني فلجأت الى الابتزاز والتسويف والمماطلة طوال الشهور الستة الماضية وبقيت تشعره بأن البديل للحوار والسعي لتشكيل حكومة وحدة وطنية بمواصفاتها وليس بمواصفاته سيكون الحرب الأهلية التي يعتبرها خطاً أحمر وأم الكبائر التي لن يسمح لنفسه بالاقتراب منها حتى وإن اضطر للتخلي عن مواقع المسؤولية.

ستة شهور و«حماس» تواصل الحوار من أجل الحوار ومن أجل الاستفادة من عامل الوقت انتظاراً لمتغيرات إقليمية تُعزِّزْ مواقفها وتُحسِّنُ مواقعها التفاوضية، وستة شهور والرئيس الفلسطيني يكابد ويلات هذا الحوار العبثي لأن لديه قناعة بأن بديله سيكون الحرب الأهلية التي إنْ اندلعت فإنها ستكون بمثابة الطامة الكبرى وستكون بمثابة لعنة إلهية ستلحق كل من ساهم في اندلاعها حتى يوم القيامة.

في كل مرة كان يصل فيها حوار الشهور الستة المتلاحقة الى حالة الاستعصاء كان «أبو مازن» يُلوِّح بالخيار البديل ولكنه كان دائماً يواجه ضغط زملائه ومساعديه بعدم التقدم ولو خطوة واحدة في اتجاه هذا الخيار البديل، وكل ذلك فيما بقيت «حماس» في كل مرة من هذه المرات تبادر الى اللعب معه لعبة القط والفأر، وهكذا الى ان حانت لحظة الحقيقة وأعلن الرئيس الفلسطيني أن هذا الحوار وصل الى طريق مسدود، وأنه لا عودة إطلاقاً إليه ما لم تستجد مستجدات مشجعة!!.

في آخر جلسة حوار، وهي الجلسة التي ترافقت مع بداية الهجوم المعاكس الذي شنه الحلف الإيراني ـ السوري ضد حكومة فؤاد السنيورة في لبنان، ألقت حركة حماس «قفازاتها» في وجه محاوريها، وأعلنت أن حكومة الوحدة الوطنية المنشودة ستبقى حكومتها وأنها لن تفرط بأي من حقائبها السيادية: الداخلية والخارجية والمالية، وأن برنامج هذه الحكومة سيكون برنامجها وأنها إذْ تقبل بإقامة دولة مستقلة في كل الأراضي التي أُحتلت في عام 1967، فإنها تقبل بها لأن الشيخ أحمد ياسين قَبِلَ بها كحلٍّ مرحلي وبدون الاعتراف بحقيقة وجود الدولة الإسرائيلية.

وحتى بالنسبة لموضوع التهدئة، الذي سُمي وقفاً لإطلاق النار، وبادرت الحكومة الإسرائيلية الى القبول به تحت ضغط حسابات غير الحسابات الفلسطينية، فإن «حماس» لم تلجأ إليه إلا بعد أن شعرت بأن استمرارها بإطلاق الصواريخ على مستعمرة «سديروت» سيُفقدها تعاطف الشارع الفلسطيني، بسبب حجم الضرر الذي ألحقه الإسرائيليون بمناطق شمالي غزة ، ردَّاً على إطلاق هذه الصواريخ العبثية .

وهكذا فقد انتهى حوار الشهور الستة الماضية بلا أي نتيجة، ولعل ما أكد أن هذا الحوار كان من أجل كسب الوقت منذ البداية أن إسماعيل هنية حتى بدون استشارة رئيسه ولا استئذانه غادر قطاع غزة في رحلة قادته الى قطر حيث أُستقبل هناك استقبال «الأباطرة» !! وحيث جاد عليه «الخيرون» بمالهم كما يجود «الخيرون» على حسن نصر الله بالمال الذي حاصر به فؤاد السنيورة والحكومة اللبنانية في بيروت .

لم يعد هناك مجال للتخمين وضرب أخماس بأسداس، فحركة «حماس»، التي غدا مربط خيولها في «قطر الثورة» والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحلف الإيراني ـ السوري، الذي اختار الدوحة بغازها وإمكانياتها و«جزيرتها» كبرج للاستفزاز والمناكفة، ليس في الخليج العربي وحده، وإنما في المنطقة كلها، لا يمكن ان تعطي الرئيس الفلسطيني حتى ولو فتات ما يريده، فهي لها موَّالها وهو له موَّاله، وكل منهما يغرد في غير الوادي الذي يغرد فيه الآخر !.

لن يعود اسماعيل هنية الى غزة إلا بعد استكمال رحلته «الجهادية»، ولن يستأنف الحوار من أجل الحوار لأنه وصل الى خط النهاية، وبهذا فإنه لم يعد أمام «أبو مازن» سوى خيارين، فإما ان يلجأ الى «البديل» الذي يهدد به، وإما أن يترك الأمور تحت رحمة الفوضى وتحت رحمة الأموال التي جاد بها «الخيرون»!! على حركة «حماس» التي لن يكون دورها بعد الآن أقل من دور حزب الله في هجوم «فسطاط الممانعة» المعاكس الذي تشهده بيروت الآن.

لا أمل إطلاقاً بأي تسوية من التسويات، فالألوان غدت مفروزة والمواقف متباعدة والمنطقة كلها حوَّلها الإيرانيون الى معسكرين متصادمين. وهكذا وعندما يُستقبل اسماعيل هنية في «قطر الثورة» هذا الاستقبال الإمبراطوي، فإنه سيعود الى غزة، هذا إن هو عاد، ليفعل فيها ما يفعله حسن نصر الله في بيروت وربما أكثر ..! وعندها فإن «أبو مازن» سيواجه ما يواجهه السنيورة الآن إنْ هو لم يحسم أمره بسرعة، ويختار أحد الخيارات التي دأب على التلويح بها منذ أن بدأ «ماراثون» الحوار العبثي الذي انتهى الى هذه النهاية.