نحن والآخر: أين الخطأ.. ومن الملوم؟

TT

فى روما دخل رجل الأعمال الأمريكي محلا شهيرا لبيع المجوهرات، واشترى قلادة ماسية غالية. كتب شيكا بالمبلغ كما أعطاهم بيانات جواز سفره وعنوان الفندق الذي يقيم فيه وعنوانه في أمريكا. وبعد أن خرج بربع ساعة جاءت مكالمة تليفونية من مجهول يقول: أنتم تعرضتم لعملية نصب منذ ربع ساعة.

أصيب أصحاب المحل بالفزع فاتصلوا بالبنك على الفور فوجدوه قد أغلق أبوابه منذ دقائق، اليوم هو الجمعة وسوف يمر يومان عطلة قبل أن يفتح أبوابه، ويكون النصاب قد طار بالقلادة الثمينة. أبلغوا الشرطة وأسرعوا إلى الفندق الذى يقيم فيه، لحسن الحظ لم يكن الرجل قد غادره بعد، كان يجلس فى ردهة الفندق وأمامه حقائبه في انتظار سيارة الفندق المخصصة لنقله إلى المطار، قال لهم في ثقة: الشيك سليم وتوقيعي صحيح، وأؤكد لكم أن رصيدي في البنك يغطيه وزيادة.

لم يكن أمام الشرطة مفر من أن يحتجزوه ليومين إلى أن يفتح البنك أبوابه، بينما بقي هو مصرا على أقواله.

في صباح الإثنين ذهب موظف من المحل إلى البنك ليجد مفاجأة كبرى في انتظاره، الشيك سليم والتوقيع صحيح والرصيد يسمح. فاعتذروا للرجل بشدة بينما جباههم هم ورجال الشرطة تتصبب عرقا من فرط الخجل. ولكن هل تصلح اعتذارات الأرض كلها لعلاج الجرح الذي أصاب الرجل في كبريائه، لقد عومل كلص، ومنع من السفر لحضور اجتماع مهم كان سيعقد فيه صفقة تكسبه مئات ألوف الدولارات، وتم احتجازه ليومين مع المجرمين والمشبوهين. لجأ الرجل إلى القضاء المستعجل فحكم له بمبلغ تعويض محترم.

الواقع أن سيادته كان وراء هذه الترتيبات كلها. هي عملية نصب مبدعة من الصعب إن لم يكن من المستحيل على الضحية النجاة منها. غير أن النصب جريمة، والجريمة لا تفيد بالرغم من تشككي في هذه المقولة. لذلك سقط الرجل بعد أن تولت شركات التأمين التحقيق في الوقائع المشابهة.

آليات التفكير واحدة عند النصابين المبدعين وكتاب الدراما ـ بالمناسبة أنا كاتب دراما غير أن الاعتراف بالحق فضيلة كما تعرف ـ وحجر الأساس عند الفريقين هو الحبكة. من الطريف أن الكلمة فى الإنجليزية (Plot) تعنى أيضا المؤامرة. والاختلاف الوحيد بين الفريقين هو في الهدف والتوجه، غير أن كليهما يستخدم نفس الآليات للإيقاع بالهدف. النصاب ينسج حبكته للإيقاع بالضحية، مستندا إلى قدرته الخارقة على توقع ردود فعل ضحيته، أي استجاباتها لما يقدمه لها من أفعال. من المستحيل عندما تكون صاحب محل مجوهرات أن تتلقى مكالمة من مجهول بأنك قد تعرضت لعملية نصب، ثم تقف ساكنا بلا حراك. هذا هو بالضبط ما يعرفه النصاب المبدع، كما يعرف أيضا كل الإجراءات التى ستتخذها الضحية التى ستمكنه من الإيقاع بها بشكل مؤكد.

أما كاتب الدراما فلا يبحث عن ضحية بل عن جمهور يستولى عليه بإبداع الحبكة ليعطيه أكبر قدر من البهجة. دوران الموتور واحد عند الإثنين، نفس البوجيهات، نفس دائرة التبريد والكهرباء والوقود، الفرق الوحيد أن الموتور عند النصاب يدور ساحبا السيارة إلى الخلف، بينما ينطلق كاتب الدراما إلى الأمام في اتجاه التقدم والخير والبهجة. الأول يؤلم الهدف والثاني يمنحه السرور.

أنتقل بك الآن إلى آلية ثالثة من آليات التفكير ليس لها صلة بالنصابين وكتاب الدراما. أكرر، ليس لها صلة بالنصابين وكتاب الدراما، وهي ذلك التفكير الذي يؤدي إلى العمل على تحقيق المظلومية. أي تحويل الآخرين إلى ظالمين لا شك في ظلمهم والاستمتاع بوقوع الظلم عليك. وذلك بدفعهم في نعومة وذكاء للسقوط في بئر الخطأ فيخطئون في حقك بشكل واضح لكل الناس، هكذا تحصل على الحق في أن تصرخ شاكيا: مظلوم يا ناس.. هل رأيتم ما فعلوه بي؟

وهو سلوك يتطلب حدة في الذكاء لا يتوفر لكثيرين، ولعل أوضح مثال للرغبة في تحقيق المظلومية. هو ما حدث للأئمة الستة في مطار منيابوليس (وكالات الأنباء والشرق الأوسط + النيوز ويك 5 ديسمبر 2006) فبعد جلوسهم على مقاعدهم قام أحد الركاب بإعطاء المضيفة ورقة، أعرب فيها عن مخاوفه من سلوك مريب للأئمة الستة، فتم إخراجهم جميعا من الطائرة مقيدي الأيدي ثم عدة ساعات من التحقيقات في المطار. وبعد أن أفرج عنهم رفضت شركة الطيران أن يطيروا عليها كما رفضوا مساعدتهم في الحصول على أماكن على طائرات أخرى. وبعد تأخير استمر ليلة كاملة، تمكن الأئمة الستة من الطيران على شركة North West في الغالب بعد تأمينها بأكبر عدد ممكن من رجال الأمن لا يقلون كفاءة عن السيد رامبو شخصيا.

الشركة التي ارتكبت هذا الخطأ المروع والتمييز المقيت اختارت إماما منهم ونقلته إلى الدرجة الأولى تكريما له لكثرة سفرياته عليها. هذا هو جانب واحد من الحكاية يكفي لكي تمتلئ بالغضب والكره تجاه هؤلاء (الأوغاد) الذين يكرهوننا ويسببون لنا الأذى بغير مبرر.. هل رأيتم كم هم أشرار.. هل رأيتم كم نحن مظلومون؟

تقرير الشرطة يضيء جوانب أخرى، قبل الصعود إلى الطائرة كانوا يرددون الله.. الله .. الله بصوت عال، وقال أحد الركاب إنه سمع منهم تعليقات معادية لسياسة أمريكا، كما أنهم لم يكونوا يحملون حقائب يد، وتذاكرهم كانت ذهابا فقط وكل اثنين جلسا معا، اثنان فى مقدمة الطائرة، اثنان في المنتصف، واثنان في المؤخرة، كما أن بعضهم طلب وصلات لإطالة حزام المقعد لأنه ممتلئ الجسم أكثر من اللازم، غير أنهم لم يستخدموها وألقوا بها على الأرض.

في حال السفر جوا كل الناس تشعر بقدر عال من الخوف والتوتر، وبعد حادث 11 سبتمبر تضاعف هذا التوتر، وذلك الخوف وخاصة عندما فوجئوا بعدد من الركاب بملامح شرق أوسطية يكبرون بصوت مرتفع. لا بد في تلك اللحظات من أن يتفجر الخوف بداخلهم، بعد أن استعادوا في أذهانهم كل ما قرأوه وسمعوه عن مفجري الطائرات والطقوس التي يؤدونها قبل وأثناء وبعد العمليات. وعندما يطلبون أحزمة إضافية، فالتفسير الوحيد المتاح للعقل الخائف ـ الذي أخافوه عمدا ـ هو أنهم سيستخدمونها في شل حركة آخرين. لقد نصبوا الفخ ببراعة للمسؤولين في الشركة والطائرة والمطار فكان من المحتم أن يقعوا فيه. ضع نفسك مكان مسؤول المطار، أو الطيار أو أي مسؤول في الشركة، أو شرطة المطار ماذا كنت ستفعل وخاصة بعد تلك الورقة التي كتبها الراكب معبرا فيها عن خوفه؟

نحن نبذل مجهودا كبيرا لكي يرانا العالم كله ضحايا ومظلومين، وفي سبيل ذلك نحن على استعداد للتفريط في حقوقنا والتضحية باحترام الآخرين لنا. والأمر المؤكد أننا بذلك نرغم العالم على تحويلنا إلى ضحايا. لسنا ضحايا ولسنا مظلومين، نحن في حاجة فقط لمصارحة أنفسنا بأخطائنا في حق أنفسنا وفي حق الغير. الناس في العالم كله منشغلون بأكل عيشهم لماذا لا نقلدهم. لماذا الإصرار على التفرد والتميز بين شعوب الأرض جميعا بأننا مضطهدون ومظلومون، لا بد من الاعتراف بشجاعة بأن معظم ما بنا من شر، هو من أنفسنا.

* كاتب مصري