تقرير لجنة بيكر: ضرورة الفصل بين الوهم والحقيقة

TT

العالم كله منشغل الآن بتقرير لجنة جيمس بيكر عن العراق. والعرب والعراقيون منشغلون بالتقرير بدرجة أعلى. فالتقرير ليس مجرد تقويم لفشل سياسة الولايات المتحدة الأميركية في العراق، إنه مدخل لتقويم فشل السياسة الأميركية «النيو ليبرالية» على مستوى العالم، الفشل في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وكذلك في الصراع المحتدم مع ايران.

كبار قادة أميركا يقولون للرئيس جورج بوش إن سياسته وسياسة فريقه قد فشلت. وهو بدأ يتخلى بالتدريج عن رجالاته الكبار الذين تولوا تنفيذ تلك السياسة، أولا في وزارة الدفاع (دونالد رامسفيلد)، وثانيا في الأمم المتحدة (جون بولتون). يقول قادة أميركا الكبار للرئيس في تقرير رسمي «إن الوضع في العراق خطير وآخذ في التدهور، ولا يوجد سبيل يمكنه ضمان النجاح، إلا أنه يمكن تحسين الاحتمالات». نظريا يمكن القول إن الرئيس غير ملزم بتغيير سياسته واتباع نصائح لجنة التقرير، وهو أعلن ذلك ليحفظ للرئاسة مكانتها المعنوية ولكي لا يوصم هو شخصيا بالفشل. وفي نوع من التغطية قال الرئيس بوش، إن قراراته بشأن التقرير ستتبلور خلال أسابيع. وقالت المصادر المدافعة عنه إنه سيختار بعض التوصيات وليس كل ما ورد في التقرير. وحتى لا يتحول تقرير لجنة بيكر إلى نوع من اللعنة، قيل إن الرئيس ينتظر كذلك ثلاثة تقارير من البنتاغون ومن وزارة الخارجية ومن مجلس الأمن القومي «وعندها سيضع السياسة الأميركية الجديدة للتعامل مع الأزمة». وهذه كلها محاور لحفظ ماء الوجه، ذلك أن ما يقوله التقرير يصدر عن رجال كبار لا يمكن تجاهل آرائهم، كما أن الأغلبية في الكونغرس تشكل عامل ضغط على الرئيس لا يمكن الاستخفاف به. ولذلك فإن الرئيس سيتريث، ثم يختار من بين التوصيات الـ79 الواردة في التقرير، بنود السياسة الجديدة التي سيتبعها.

ما هو المحور الأساسي لهذه السياسة؟

شاع في الإعلام العالمي والعربي القول، إن تقرير لجنة بيكر يدعو إلى الانسحاب العسكري الأميركي من العراق. فهل هذا الاستنتاج صحيح؟

وشاع في الإعلام العالمي والعربي القول، إن الإدارة الأميركية ستتراجع، وستقيم تعاونا مع سوريا وايران لحل مشكلة العراق. فهل هذا الاستنتاج صحيح؟

يمكن القول استنادا إلى هذه الجملة أو تلك، إن التقرير يدعو إلى الانسحاب العسكري من العراق، وإلى التعاون الايجابي مع سوريا وايران. ويمكن أيضا قول العكس تماما، والاستناد إلى روح التقرير ومجراه العام، للقول بأن الإدارة الأميركية لا تفكر بالانسحاب من العراق بمعنى التخلي عنه. إنها تفكر بتغيير تكتيك التواجد الأميركي، لكي يتولى العراقيون الأمن الداخلي وتبقى هي مسيطرة على العراق استراتيجيا.

لقد سبق لإدارة الرئيس بوش أن سعت إلى هذه الخطة منذ العام الأول لاحتلال العراق، ولكنها فشلت في إنجازها. وتقرير لجنة بيكر يؤكد على هذه الخطة الأميركية، وهو بهذا المعنى يكرر ولا يضيف، مع إشارات لتفاصيل هنا وهناك، مهمة للغاية، وقادرة على أن تحدث تغييرا فعليا في صورة الصراع الدائر، إنما من دون الذهاب إلى نقطة الانسحاب الأميركي أو الهزيمة الأميركية. ما يقوله التقرير هو أن الانتظار لم يعد ممكنا، ويجب المبادرة إلى تنفيذ الخطة، وربما إجبار العراقيين عليها، ويقتضي ذلك إحداث تغييرات جوهرية هنا وهناك. ينطلق التقرير في توصيته الأولى من الدعوة إلى هجوم دبلوماسي شامل. وهو يقترح إجراءات (التوصية الثالثة) أبرزها عقد مؤتمر في بغداد لمنظمة المؤتمر الإسلامي أو الجامعة العربية، للمساعدة وتحقيق المصالحة الوطنية، وعلى الولايات المتحدة أن تسعى فورا إلى إنشاء «المجموعة الدولية لدعم العراق»، ويبدأ بعد ذلك دور الحكومة العراقية (التوصية 19) والتي تدعو الرئيس بوش إلى المحافظة على الاتصال المباشر مع القيادة العراقية، لتكريس رسالة واضحة وهي أن على الحكومة العراقية أن تتحرك لتحقيق تقدم ملموس. وفي حال (التوصية 21) لم تحقق الحكومة العراقية تقدما ملموسا على طريق المصالحة الوطنية، وتحقيق الأمن، وتثبيت الحكم، ينبغي على الولايات المتحدة أن تخفض الدعم السياسي أو العسكري أو الاقتصادي لها.

وهكذا فإن التقرير يسعى إلى إشراك العالم كله في تقديم المساعدة للاحتلال الأميركي، لكي يتمكن من مواجهة معضلته في العراق، وهو يهدد العراقيين المتحالفين معه، فإما أن يكونوا على مستوى المسؤولية، وإما أن يتم التخلي عنهم واستقدام متعاونين جدد أكثر كفاءة. وهذه نقطة جديدة ومهمة وحساسة، ولذلك بادر الزعيم الكردي محمود عثمان الذي فاوض هنري كيسنجر لدعم تمرد الأكراد عام 1975، وتخلى عنه فور عقد الاتفاق مع النائب صدام حسين في الجزائر، بادر إلى وصف التقرير بأنه ليس عادلا، لأنه يوصي بخفض الدعم للحكومة العراقية، إذا لم تحرز تقدما جوهريا على صعيدي الأمن والمصالحة الوطنية، وقال إن الولايات المتحدة تسمي نفسها بأنها قوات محتلة طبقا لمعاهدة جنيف، وإذا كانت محتلا ستكون مسؤولة عن البلاد. لقد أدرك الزعيم الكردي أن تقرير لجنة بيكر يريد أن تتنصل الإدارة الأميركية من مسؤوليتها، وأن تلقي بعبئها على عاتق العراقيين، ومن دون أن تنهي احتلالها للعراق. ولذلك... ليس صحيحا الاستنتاج القائل بأن الجيش الأميركي يريد الانسحاب (التخلي) من العراق.

تبقى النقطة الثانية المتعلقة بإيران وسوريا. توحي الحملة الإعلامية بتوجه للاقتراب منهما والانفتاح عليهما، بينما توضح نقاط التوصيات أن التعمل معهما سيتم كأعداء، وباتجاه الضغط عليهما وتطويعهما لكي يكررا النموذج الليبي. يقول التقرير (التوصية 8) إن التعاون مع ايران وسوريا مثار خلاف... وينبغي إجراء محادثات دبلوماسية مكثفة وموضوعية، تتضمن قدرا من توازن المصالح. ويجب أن تضع واشنطن في اعتبارها نظام الحوافز لإشراك سوريا وايران، كما حدث بنجاح مع ليبيا.

يواصل التقرير (التوصية 12) اعتبار سوريا مصدر توريد المقاتلين الأجانب إلى داخل العراق، ولذلك فإنه يقترح تشجيع سوريا على المساهمة في خطوات مثل: مراقبة حدودها مع العراق إلى أقصى حد ممكن. تسيير دوريات مشتركة مع العراقيين على الحدود. إنشاء خطوط لتبادل المعلومات. زيادة التعاون السياسي والاقتصادي مع العراق. ومطلوب من سوريا على صعيد آخر: وقف المساعدات إلى جزب الله. استخدام سوريا لنفوذها لدى حزب الله وحماس لإطلاق الجنود الإسرائيليين الأسرى. النحقق من وقف سوريا محاولات تقويض الحكومة المنتخبة ديمقراطيا في لبنان.

وبحسب هذه النقاط وكثير غيرها، فإن على سوريا (وايران) أن ترضخ بالكامل لمطالب السياسة الأميركية، وهذا ما يسميه التقرير «الانفتاح» أو «التعاون» مع ايران وسوريا.

ولهذا ليس صحيحا الاستنتاج القائل بأن التقرير يدعو إلى تغيير سياسة الولايات المتحدة تجاه ايران وسوريا. إن التقرير يدعو إلى تغيير السلوب، والانتقال من التهديد إلى التلاقي والتفاوض، إنما من دون تنازل عن أي اتهام مسبق، أو عن اي مطلب مسبق.

ولكن بالرغم من كل هذا فإن التقرير يتضمن إشارات في غاية الأهمية والخطورة، وكلها إشارات تشير إلى فشل المخطط الأميركي في العراق وفي المنطقة كلها. يقول التقرير: لن تكون الولايات المتحدة قادرة على تحقيق أهدافها في الشرق الأوسط، ما لم تتعامل مباشرة مع الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ولا حل عسكريا لهذا الصراع (التوصية 12). ينبغي أن يعلن الرئيس الأميركي إن بلاده لا تسعى إلى إقامة قواعد عسكرية دائمة في العراق، وسينظر في الأمر إذا طلبت الحكومة العراقية ذلك (توصية 22). والولايات المتحدة لا تسعى للسيطرة على نفط العراق (توصية 23). ومراجعة الدستور العراقي أمر أساسي لتحقيق المصالحة الوطنية (توصية 26).

ويقول التقرير ايضا: تتطلب المصالحة الوطنية إعادة البعثيين والقوميين العرب إلى الحياة الوطنية، مع رموز نظام صدام حسين (التوصية 27). وعائدات النفط يجب أن تعود إلى الحكومة المركزية (التوصية 28). والوضع في كركوك خطير، وهناك ضرورة للتحكيم الدولي لتجنب العنف الطائفي (التوصية 30).

كل هذا وغيره هو توصيات، ولكن هذه التوصيات تقوم على قاعدة أساسية تقول «حتى بعد أن تسحب الولايات المتحدة فرقها القتالية خارج العراق، سنبقي على وجود عسكري لهم في المنطقة، مع قوتنا المهمة في العراق، وانتشارنا الجوي والبري والبحري في الكويت والبحرين وقطر، ووجود أكبر في أفغانستان. وستسمح هذه القوات... بتنفيذ مهمات بينها ردع تدخلات سورية وايرانية مدمرة أكثر التوصية (39).

إن تقرير لجنة بيكر يدعو الولايات المتحدة إلى استمرار سيطرتها على العراق، إنما بوسائل أخرى (تحريك دعم عالمي ـ الإشراف على تدريب الجيش ـ التغلغل في أجهزة وزارة الداخلية ـ التغلغل في أجهزة وزارة الدفاع ـ وتعيين مندوب أميركي للإشراف على إعادة الإعمار الاقتصادي).

يختم تقرير لجنة بيكر توصياته بالقول «على C.I.A، توفير جنود أكثر في العراق، لتطوير وكالة استخبارات فاعلة وتدريبها». (التوصية 79).