أخيرا : العراق بين الخيارات الدبلوماسية .. وتكاليف الفشل

TT

يبدو الحراك الدبلوماسي الراهن في المنطقة كمحاولة للاستجابة لجملة من التغيرات الدولية والإقليمية، وإعادة صياغة قواعد جديدة لإدارة الازمات الراهنة في العراق ولبنان وفلسطين. ولم يعد هناك من شك بأن الإدارة الامريكية تسعى لإجراء تغيير مهم في سياستها العراقية، تغيير يسهم في كسر الانطباع السائد بقوة في أنها فشلت في العراق، ويوفر خروجاً مشرفاً من المستنقع لا سيما بعد ان تم تحميل رامسفيلد، ضمنياً، جزءا من مسؤولية ما يعتبره كثيرون فشلاً في إدارة الملف العراقي، ورحيل آخر المحافظين، جون بولتون، ليصبح الرئيس أذنا صاغية لمستشاريه الجدد المحسوبين على المدرسة الواقعية. ولكن علينا ان نفكر جيداً بتكاليف المخارج المتاحة، ونتائجها.

من الواضح أن التصعيد في الملفين العراقي واللبناني بصورة متزامنة، والايحاءات التي بدأت تأخذ طابع الصراحة بان البلدين يسيران، وان بدرجات متفاوتة، نحو الحرب الأهلية، ثم قمة بوش ـ المالكي المسبوقة بمحادثات امريكية عالية المستوى مع السعودية والأردن، والزيارة التي قام بها طالباني إلى إيران، الطرف الذي ينظر له بعض العرب كداعم للميليشيات الشيعية، كلها تندرج في إطار مكاشفة إقليمية دولية يسعى الجميع خلالها إلى طرح مطالبهم بدون مواربة أو ستر دبلوماسية، والوصول إلى سقوف هذه المطالب حتى لو اقتضى ذلك اللعب على حافة الهاوية، والبحث عن مخارج سياسية أو غير سياسية في اطار صراع القوى الراهن. أعقب ذلك تقديم لجنة بيكر ـ هاملتون تقريرها بعد أسابيع من التكهنات والتسريبات التي تم توظيفها لإرسال رسائل سياسية إلى الفرقاء المختلفين. ولعل أهمها رسالة التفاوض مع إيران وسوريا التي بدأ تنفيذها حتى قبل صدور التقرير. ويبدو أن الإدارة الأمريكية تواجه ضغوطاً داخلية لا تقل تأثيراً إن لم تكن تزيد على الضغط الميداني الذي تتعرض إليه. فبين رغبة بوش بالسير «حتى إنجاز المهمة» ورغبة خصومه في استثمار «الفشل» إلى أقصاه، تتراوح وجهات النظر والطروحات بين ثلاثة أفكار:

ـ الأولى انه قد تم عمل كل شيء وكانت النتيجة الفشل في بناء الدولة العراقية الديمقراطية التي تمثل نموذجاً للشرق الأوسط، ولم يعد هناك من خيار سوى الهروب، او كما تعبر عن ذلك احدى المقالات المروجة لهذا المنطق «أفضل طريقة لعدم التخلي عن العراق هي بالتخلي عنه»، وهذه الفكرة تزدهر بشكل خاص لدى أقصى اليسار أو الليبراليين المتطرفين.

ـ والفكرة الثانية هي الركون الى صفقة إقليمية ودولية عبر مؤتمر دولي، أو «طائف» عراقية، يتم بموجبها توزيع مناطق النفوذ ومستوياته بين الاثنيات وتطمين مخاوف الدول الإقليمية وتطلعاتها، وهذا المنطق يقترب منه الجمهوريون الواقعيون وديمقراطيو الوسط، وحتى الى حدود معينة لجنة بيكر الداعية الى دبلوماسية مفتوحة والى التعاطي بفاعلية مع إشكالات المنطقة المزمنة.

ـ اما الفكرة الثالثة، التي يبدو ان ادارة بوش باتت اقرب إليها، فهي الإقرار بفشل مشروع «زلماي خليل زاد» الذي يفترض امكانية التوفيق المستمر بين مطالب الشيعة والسنة والأكراد عبر لعب الدور الموازن، وهي الفكرة التي أدت بحسب احد المعلقين الى التضحية بثقة 80% من العراقيين مقابل الفشل بكسب ثقة الـ 20% المتبقين، والاتجاه لدعم حكومة المالكي وعدم تقييد حركتها بانتظار إرضاء كل الفرقاء، خصوصاً ان استعداء الشيعة قد يؤدي الى تقوية التيار الشيعي المناهض لأمريكا، واستكمال عقد التحالف الذي تبنيه إيران في المنطقة.

والى ذلك يوحي ما تبع اجتماعات بوش ـ المالكي من تصريحات وتلميحات، بان الإدارة الامريكية لا تنوي الرجوع عن المشروع السياسي، او الارتداد بالعملية السياسية الى نقطة الصفر، فلا يمكن ان تعالج نقاط الفشل بتدمير نقاط النجاح، وبعد كل شيء يدرك بوش أن هناك اليوم حكومة وبرلمانا ودستورا، وان من الأفضل العمل من خلال النطاق السياسي الذي تم تطويره بدلاً من تعطيله بالكامل. ويبدو أن الحكومة العراقية حصلت على ما كانت تطمح إليه من سلطات أمنية وحرية حركة كانت مقيدة بمشروع خليل زاد، وان الحكومة الامريكية رغم اهتمامها بعزل من تعتبرهم متطرفين شيعة (التيار الصدري) لا تنوي تقديم المزيد من التنازلات للجماعات السنية المسلحة التي لم تستفد من المرونة التي أظهرها الأمريكيون إلى الآن، وسيكون هناك تعويل مهم، وربما أخير، على حكومة المالكي لإحداث تغيير على الأرض، يمكن ان يسبق او ينفي الحاجة أصلا لترتيبات إقليمية تضطر امريكا فيها الى الدخول بلعبة الموازنة بين مصالح الفرقاء الإقليميين.

ويدرك الناظر للخطاب السياسي والإعلامي أن قدراً عالياً من التعبئة يجري نحو تكريس حالة الاستقطاب الطائفي الإقليمي، وهي حالة تأبى إلا ان تكتمل ليغدو بالامكان الوصول لفرز صريح وواضح لطبيعة الصراع المقبل. ويمكن القول بكلمات واضحة إنه إذا لم يتم انتهاز الفرصة المواتية لبلوغ تسويات عقلانية ومرضية للحدود الدنيا، وللهواجس الأمنية والاقتصادية والآيديولوجية، في إطار منظومة أمنية جديدة للمنطقة، فإن انفجار الصراع الأهلي العراقي سيكون وشيكاً، واقتراب لبنان اكثر منه سيكون محتملاً جداً والثمن سيكون مكلفاً للجميع. 

عند هذه النقطة سيكون علينا ان نتجاوز السذاجة الخطابية التي تتغنى بهزيمة امريكية في العراق، بدون إدراك لحقيقة ان هذه الهزيمة، بالمعنى الذي يسوق له متطرفو المنطقة، ستفتح باب جهنم على الجميع، ثم ان الوضع الامريكي يبدو من التعقيد، بحيث يصبح التسليم المتسرع بأن هذا الحدث أو ذاك هو انتصار او هزيمة بالمعنى المطلق امر غير وارد. ولو قدر للامريكيين ان يخرجوا «مهزومين سياسياً» من العراق، فإنهم سيجعلون تكلفة هذه الهزيمة عالية جداً، ليس أقله حرب مشتعلة بين الاثنيات المتعددة التي عجزت عن ان تتوافق في ظل الراعي الامريكي.

ولان سياسات المنطقة تدار بدرجة عالية من الغريزية، فان الفراغ الناتج عن الغياب الامريكي، وعن ضعف الحكومة المركزية، سيكون مجالاً لصراع بين القوى الإقليمية الراغبة بملئه، وهي قوى بمصالح متضاربة ومتصارعة أحيانا. عندها، ستصبح القضية العراقية (ويسري ما نقوله مع فارق نوعي على القضية اللبنانية) أكثر تعقيداً واستعصاء على الحل، فيما ستسعى القوى السنية والشيعية إلى استنزاف بعضها، فضلاً عن تدمير بلد يعيش حالة احتضار منذ زمن، وسيتم إهدار الكثير من موارد المنطقة على إذكاء هذا الصراع، أو من اجل تحقيق حلم هذا الطرف أو ذاك، بفرض سيطرته وإعلان انتصاره النهائي، بدون وعي لحقيقة أن القوى التي أججت هذا الصراع ستفعل كل ما تستطيع لمنع أي طرف من حسم الصراع نهائيا لصالحه.

والمفارقة هنا ان إسرائيل ستكون هي الرقم الصعب والطرف المنتصر الوحيد، أولا لأنها تكون قد حيدت القوى المناهضة، وبشكل خاص الأصوليات السنية والشيعية، وثانياً لأنها ستحافظ على التفوق العسكري والاقتصادي في ظل استنزاف بقية القوى الإقليمية لإمكانيات بعضها البعض، وثالثاً لأنها ستتمكن من تسوية الصراع مع الفلسطينيين بالطريقة التي تفضلها وبدون منغصات كثيرة. ستشعر إسرائيل بالأمان لأنها ليست شيعية أو سنية، وقد أثبتت بعض التنظيمات الأصولية المتشددة مثل القاعدة انها تناصب خصومها «الطائفيين» عداءً اكبر من عدائها لخصومها «الدينيين».    

مثل هذا الوضع قد يخدم المصالح الامريكية من حيث انه سيضمن بقاء أسعار النفط عالية بشكل يمكن الولايات المتحدة من إضعاف الاقتصادات المتنافسة، في الوقت الذي يهيئ لها فرص مد السيطرة على النفط العربي، لا سيما ان اغلب الدول النفطية ستتمسك بالمظلة الأمنية الامريكية في أتون هذا الصراع المر. وبالطبع فان دويلات الطوائف الناتجة عن هذا الصراع ستغدو أوراقا جيدة في متناول الاستراتيجية الامريكية التي تكون عندها قد خرجت من مستنقع العراق لتزج بالآخرين فيه، وبعد بضع سنوات سيكون بالإمكان أن نسأل أنفسنا عن الطرف الذي انتصر أو الذي هزم، وسنراجع بمرارة شعارات المرحلة الحالية، كما سنوجه اللوم إلى النزوع اللاعقلاني قصير النظر الذي حكم توجهات الجميع في هذه المرحلة.     

هذا السيناريو كبير الاحتمال، كما ان الحيلولة دونه ما زالت احتمالا مواتياً، ويمكن الآن انتهاز الفرصة عبر أبواب الدبلوماسية التي فتحت على مصاريعها في المنطقة، وبلا استبعاد حتى من قبل الإدارة الامريكية لأحد، وعلينا ان نوازن بين تكلفة النجاح التي يستلزمها العمل السياسي والدبلوماسي، وتكلفة الفشل التي يتطلبها استبدال ذلك بوسائل أخرى.. ولا بأس أن نتذكر في زحمة انشغالنا بتحديد مصالحنا والسعي إليها، شعباً يذبح منذ عقود، وبلداً يحتضر، ووراءه وربما أمامه، قصة آلام وأحزان طويلة.