لبنان.. وتجاذب الثوب بين السنة والشيعة

TT

بلغ الحشدُ الشعبي ذروته يومَ الأحد في الماضي وفي ساحتي الشهداء ورياض الصُلْح، وما حولهما، وفي الطرق المؤدية إليهما. ومع أنّ الأرقام في لبنان لا صدقية فيها ولها؛ فلا شكَّ في ضخامة التجمع وهَول الأعداد المشاركة فيه. وصحيحٌ أنّ المشاركين كان بينهم محازبون للجنرال عون وللحزب السوري القومي ولسليمان فرنجية وللحزب الشيوعي ولحزب البعث. بيد أنّ 85% من المتحشدين هم من الطائفة الشيعية، التي خرجت على بكرة أبيها، من الجنوب ومن بعلبك ومن الضاحية أو ما تبقّى منها بعد التخريب الإسرائيلي، ومن أحياء بيروت الشعبية التي صار فيها للشيعة وجودٌ ملحوظٌ في حقبة الحرب(1975 ـ 1990) وما بعدها. ولكي نفهم أسبابَ هذه الاستماتة في التحشُّد، ينبغي العودةُ قليلاً إلى الوراء. فقد كان واضحاً منذ نهاية حرب تموز في 13/14 آب(أغسطس) أنّ الطائفة الشيعية تلقّت ضربةً قاسيةً وقاسيةً جداً بغضّ النظر عن مدى ما أصاب البنية العسكرية للحزب من أضرار. وكان لا بد من وسائل لتنفيس الغضب والاحتقان والفجيعة، والتقاط الأنفاس، وكسْب فُسْحة من الوقت للأم الجراح، ولمراجعة المتطلبات الاستكمالية الإيرانية والسورية. ولذلك فقد بدأ الحزب، وبدأ السيد حسن نصر الله حركتين التفافيتين في الوقتِ نفسِه: إعلان تحقّق الانتصار في خطاب «النصر الإلهي» الرامي لاستثمار ثبات الحزب عربياً وإسلامياً ودولياً، وللاستثمار أيضاً في مجال إرضاء الشيعة المفجوعين من جرّاء الخسائر الهائلة. والحركةُ الأخرى أو الثانية التي بادر إليها السيد نصر الله، تمثّلَتْ في توجيه سُحُب الغضب وسيوله باتجاه تيار الرابع عشر من آذار (وبخاصةٍ وليد جنبلاط وسعد الحريري وسمير جعجع)، لكنْ أيضاً وبالدرجة الأُولى باتجاه رئيس الحكومة فؤاد السنيورة الذي تدرَّج في اتهامه بالتقصير أثناء الحرب وبعدها، وصولاً إلى زعم تواطئه مع الأميركيين والإسرائيليين، والمطالبة بحكومة وحدةٍ وطنيةٍ يحضُرُ فيها حليف الحزب الجنرال عون، ويضمن من خلالها السيد نصر الله عدم استمرار السنيورة و«الفريق الحاكم» في الاستتباع للأميركيين ولفلتمان سفير الولايات المتحدة في لبنان!

كان المقصدُ الأول من وراء هذا التوجُّه، إيجاد «عدو داخلي» تسبّب في الحرب، وفيما نجم عنها من خسائر. ولذلك فقد نُسيت في خضمّ هذا الاندفاع الأسباب المختلفة التي ذكرها السيد نصر الله للحرب أثناء اشتعالها. قال مرةً إنه شنّ الحرب لإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين لدى إسرائيل. وقال مرةً أخرى إنه إنما شنّ حرباً استباقيةً، لأنّ اليهود كانوا ينوون مهاجمة الحزب ولبنان في أيلول أو تشرين الأول. وقال مرةً ثالثةً إنها حربُ الأمة والحرب المفتوحة من أجل فلسطين. لكنه في المرة الأخيرة قال إنّ اليهود والأميركيين هم الذين شنُّوا الحرب على الحزب لأنّ فريقاً في 14 آذار طلب من الأميركيين والإسرائيليين ذلك! لكنه وهو يتدرج ويختلفُ ويستنبط ويُهاجم أيقظ آمالاً واستهدافاتٍ واستغلالاتٍ ومشاعر: الجنرال عون ازدادت آمالُهُ في الرئاسة وبخاصةٍ أنه سيدخل إلى حكومة الوحدة الوطنية بأربعة وزراء. وأنصارُ سورية أمّلوا أن يستعيدوا نفوذَهم ومراكزَهُم إن ركبوا قطار الحزب سريعاً. والسوريون أمّلوا من وراء هجوم الحزب على الحكومة منع المحكمة الدولية، وإن تمادى الأمر فيمكنُ لهم استعادة بعض النفوذ على القرار السياسي في لبنان. أمّا السُنّةُ فاستُثيرت مشاعرُهُم المذهبية نتيجة تجاهُل الحزب لاعتبارات دم الحريري، ونتيجةَ الهجوم الصاعق على رئاسة الحكومة ورئيسها السُنّي. والعرب (والسعوديون على الأخصّ) غضبوا لتقلقُل تصريحات السيد نصر الله تُجاههم بين التسامُح المتفضّل (رغم أخطائهم، كما قال السيِّد!) أو الاتّهام المتعجّل (كما ذكر في خطابه الأخير الموجَّه للمتظاهرين!). بيد أنّ أكبر أخطار خطابات وأحاديث زعيم حزب الله: إيقاظ آمال كبرى لدى الجمهور الشيعي، لتعويض المُصاب من جهة، ولاكتساب مواقع جديدة في التركيبة اللبنانية الهشّة ولكنْ الصمّاء! فالعامةُ الشيعية لم تنس أنها كسبت كثيراً بعد الطائف؛ إذ إلى جانب النفوذ السياسي المتصاعد، أتى لهم الرئيس بري(وكيل الحصة الشيعية في النظام اللبناني) بأكثر من خمسة مليارات دولار من خلال مجلس الجنوب، ومن خلال التعويضات الضخمة التي قبضوها للخروج من مواطن تهجيرهم في بيروت. أمّا الآن وقد كسب الحزب الحرب، وصيَّر لبنانَ « قوةً إقليمية»، كما ذكر السيد نصر الله؛ فلا أقلَّ من أن يُعادَ بناءُ ما تخرب من ديارهم بعد التعويض عليهم، ولا أقلَّ من أن يُصار لتعديل الحصص في الكيان اللبناني لصالحهم، ثم لا أقلَّ من أن يَعترفَ لهم الفريقُ الآخَرُ بالانتصار، وبالتالي ببقاء الحزب على سلاحه إلى أن تتناهى الأدهار، أو كما قال علي عمّار، نائب الحزب عن منطقة المتن: يبقى حزب الله ما بقي القرآن، ويبقى حزبُ الله ما بقيت رسالةُ محمدٍ عليه الصلاةُ والسلام!

وفي الوقت الذي كانت فيه الأزمة السياسيةُ اللبنانيةُ الداخليةُ تتصاعد خلال شهري أيلول وتشرين الأول، تحت وطأة ضغوط حزب الله والتيار الوطني الحر(الجنرال عون)، كانت الأحداثُ الإقليميةُ والدوليةُ تكشفُ عن وجهٍ جديدٍ من وجوه التأزم في المنطقة. ارتبكت الحكومةُ الإسرائيلية نتيجة الفشل في الحرب مع حزب الله، ثم تماسكت بتوسيع التحالُف الحاكم. واشتدّ الاضطرابُ في فلسطين بين فتح وحماس، مع استمرار المذابح الإسرائيلية في غزة بسبب خطف جنديٍ إسرائيليٍ فضلاً عن الحصار الدولي ضد حكومة حماس. بيد أنّ أخْطَر ما جرى التردّي في الحرب الأهلية بالعراق، وازدياد خسائر القوات الأميركية فيه. وجاءت هزيمةُ الرئيس بوش وحزبه في الانتخابات النصفية لتكملَ انفضاح خطط الرئيس، وحروبه. وتقدمت الحملةُ السعودية (وانضمت إليها مصر والأردن والكويت والبحرين والإمارات) من أجل العودة لمحاولة السلام الشامل، ومن أجل دعم حكومة لبنانَ واستقرار لبنان بعد حرب تموز. في حين صعّدت إيران من هجماتها المضادّة على أميركا وإسرائيل، متشجِّعةً بما حقّقه الحزب في لبنان، وبفشل بوش في الانتخابات، واتجاهه لتغيير سياساته، وتفكيره في التفاوض مع إيران وسورية بشأن العراق. كانت إدارة بوش الابن الأولى قد وضعت ـ تحت تأثير المحافظين الجدد ـ استراتيجياتٍ جديدةً لاستثمار نتائج انتصارها في الحرب الباردة: شنّ الحروب الاستباقية (الحرب على الإرهاب)، ونشر الفوضى البنّاءة (تغيير الأنظمة الفاشلة في المشرق باتجاه الديمقراطية!). وقد عنت هذه السياسة بشقّيها في الشرق الأوسط: محاصرة العرب والإسلام السُني الموبوء بالأصولية، ومهادنة إيران. وقد شلّ ذلك العرب عن التأثير في مصائر العراق وفلسطين، وأخاف الأنظمةَ على استقرارها، ومكّن من احتلال أفغانستان والعراق بموافقة إيران أو سكوتها. بيد أنّ تلك السياسة ما حققت بعد حوالي السنوات الخمس أيَّ نجاح: ازداد الاضطرابُ في المنطقة، ووقعت إسرائيل المنكفئة بين سندان حماس في غزة، ومطرقة حزب الله في جنوب لبنان. وفشل الغزو الأميركي للعراق في الوصول إلى أي نتيجةٍ باستثناء إسقاط صدام ونظامه، واندفعت إيران في خطين: خطّ المُضيّ في البرنامج النووي، وخط اختراق المشرق العربي في العراق وسورية ولبنان وفلسطين.. وربما بعض دول الخليج. وبدأت أميركا منذ مطلع ولاية بوش الثانية في التغيير من سياساتها لتجنب هزيمةٍ مدوّيةٍ بالعراق، وارتباكات في المديات الاستراتيجية، مثل شرق آسيا وأميركا اللاتينية: أزال بوش المحافظين الجدد من الإدارة بالتدريج لكنْ بحزم، وأعاد ربط العلاقة مع الحلفاء الأوروبيين، وتواصل مع روسيا الاتحادية لاستعادة شراكات الحرب الباردة، وصعّد مع إيران بشأن النووي، وبشأن العراق، واعترف بالخطأ تجاه الحلفاء العرب وعاد للحديث عن الدولة الفلسطينية المستقلة، وعن مبادرة السلام العربية. وكانت إيران بين أوائل الذين أحسُّوا بالتخلّي الأميركي عن سياسات المُهادنة فأَوحتْ إلى حزب الله بحرب تموز، التي أوقعت الحزب رغم الثبات البطولي في مأزقٍ لما ترتّب عليها من نتائج؛ إذ كانت عاقبتُها سدَّ المدخل إلى الجنوب بالجيش اللبناني وبالقوات الدولية. كما أوحتْ إيران وسورية إلى حماس بعدم إقامة حكومة وحدةٍ وطنيةٍ مع فتح في فلسطين، وعادت إيران لإطلاق يد حليفها السوري وأعوانه في لبنان تحت سمع الحزب وبصره، ربما تمويله وحمايته.

مع اشتداد الأزمة السياسية اللبنانية الداخلية بسبب تصاعُد حملات حزب الله وعون على حكومة الرئيس السنيورة(باعتبارها حكومةً مستأثرة، وحكومةً أميركية)، دعا الرئيس بري من جديدٍ إلى لقاءٍ تشاوري، وليس لقاءً حوارياً، هذا المرة. وموضوعا التشاور العتيد الوحيدان: إنشاء حكومة وحدة وطنية، واشتراع قانون انتخابات جديد. وقد كان واضحاً أنّ جدولَ الأعمال هذا يستجيب لمطلب حزب الله وعون وحسْب. ولذلك فقد سار التشاور طوال أُسبوع بخطىً متعثرة، وما سلّم الرئيس السنيورة وحلفاؤه إلاّ بمبدأ توسيع الحكومة، أي إدخال وزراء لعون فيها. لكنْ على مشارف انتهاء التشاور بنصف نتيجة وردت من نيويورك مسوَّدة مشروع المحكمة الدولية، وعيّن الرئيس السنيورة جلسةً لمجلس الوزراء لمناقشتها، فعارض رئيس الجمهورية، واستقال الوزراء الشيعة من الحكومة في حركةٍ دراماتيكية غير منتظرة، وتصاعدت بعضُ الأصوات (ومنها صوت رئيس الجمهورية) بأنّ الحكومة ما عادت شرعيةً ولا دستوريةً لانسحاب وزراء طائفةٍ لبنانيةٍ كبرى منها. ولما لم تتعطل اجتماعاتُ الحكومة بالاستقالة الشيعية، واستمرت إجراءاتُ إقرار المحكمة الدولية، بدأ حزب الله وعون (وانضم إليهما أنصار بري، وكل حلفاء سورية) يستعدان للتظاهر والاعتصام. وقتل الوزير والنائب بيار الجميل، من 14 آذار، فما تأخر النزول للشارع غير أسبوعٍ واحد. ونزل حزب الله بأعدادٍ ضخمة، وتراجعت أعداد المسيحيين النازلين مع عون على أثر اغتيال الجميل، وما ظهر أنصارُ سورية إلاّ في الأصوات العالية بمكبّرات الصوت التي تُصِمُّ الآذان. وقد تراوحت الشعارات خلال أكثر من أسبوع بين مطلب حكومة الوحدة الوطنية (الثلث المعطِّل) ومطلب إسقاط الحكومة بالشارع للتخلص من الوصاية الأميركية.. إلى أن وصل عون للقول في مهرجان الأحد يوم 10/12 إنّ المطلوب جَرف السنيورة وحكومته وإنشاء حكومة انتقالية تُجري انتخابات نيابية مبكِّرة!

بيد أنّ تحرك الحزب وعون وحلفاء سورية في الشارع وبعد أكثر من أسبوعٍ وصل إلى الحائط المسدود لأربعة أسبابٍ بارزة: ثبات الرئيس السنيورة، وثبات حلفائه في 14 آذار ـ والصدمة التي أصابت المسيحيين بقتل الوزير الجميل بعد أن كان المعتقد أنّ الاغتيالات توقفت مما دفع البطركية المارونية إلى التقدم بمبادرةٍ للخروج من الأزمة، اضطر عون ونصر الله لتأييدها ـ والدعم العربي القوي والقوي حداً للسنيورة وحكومته، وكذلك الدعم الدولي ـ والالتفاف السُنّي القوي من حول السنيورة وسعد الحريري.

اتّسم أداءُ السنيورة خلال فترة محاصرة السراي الكبير بالهدوء والثبات والرصانة في التصريحات الإعلامية وفي الاجتماعات. ثم أقبل على استقبال وفودٍ شعبيةٍ وإطلاق النداءات للتهدئة ولاحترام المؤسسات، والحياة العامة. وعندما صعّد السيد نصر الله هجومَهُ عليه شخصياً، ردَّ الرئيس السنيورة بتفنيد ما ذكره السيد بنداً بنداً. ومع ازدياد الدعم العربي والدولي للسنيورة، تصاعد الاحتشاد السني من حوله، وصولاً إلى مهرجانٍ كبيرٍ بطرابلس يوم الأحد الماضي. وهكذا فقد عرف السنيورة إجماعاً سنياً من حوله، يُشبه الإجماع الذي تحقّق عشية استشهاد الرئيس الحريري. فقد اعتبر السنيون في الأرياف، وفي طرابلس وصيدا وبيروت، أنّ المقصود النيل من سُمعتهم ودورهم الوطني. وبخاصةٍ بعد تصريح السيد الخامنئي أنّ المراد الانتصار على أميركا في لبنان؛ وتصريحات السيد نصر الله أنّ الحاكم الحقيقيَّ في بيروت الولايات المتحدة من خلال السفير فيلتمان! رأى الحزبُ إذن أنه يُواجهُ خطر اندلاع نزاعٍ سني/ شيعي في لبنان إن استمرّ في محاصرة رئيس الوزراء السنّي؛ وهذا فضلاً عن ظهوره بمظهر المنفّذ للخطط الإيرانية في الصراع الناشب مع الولايات المتحدة، وبمظهر المغطّي لتصرفات سورية وحلفائها في لبنان.

وانفتحت كوَّةٌ في الجدار الأصمّ بمبادرة البطركية المارونية إلى طرح خارطة طريقٍ لحلّ الأزمة، ذُكرت فيها الحكومةُ الوطنيةُ إلى جانب المحكمة الدولية، والبحث في تقصير مدة رئيس الجهورية، وفي قانون الانتخاب. قالت البطركية بذلك إنّ رئاسة الجمهورية موضوعٌ يُهمُّ المسيحيين بالدرجة الأولى. وتجاوب السنيورة وحزب الله على حدٍ سواء مع المبادرة. فعادت الأمور لتتخذ أحجامها الطبيعية: الرئاسة ملفٌ ماروني، ورئاسة الحكومة ملفٌ سني، ورئاسة مجلس النواب ملفٌّ شيعي، ولا حَقَّ لأيٍ من الأطراف الثلاثة بالاعتداء على ملفّ الطرف الآخَر. وجاء السيد عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية، وبعده المبعوث السوداني مصطفى عثمان اسماعيل، واقترحا أولوياتٍ تتناول حكومة التوافُق ورئاسة الجمهورية والمحكمة الدولية. وثم عاد السيد عمرو موسى يوم الثلاثاء في 12/12/2006 لمتابعة موضوع المبادرة العربية التي يبدو أنها مدعومةٌ من العرب الكبار.

إنّ هذا كلَّه لا يعني أنّ الأزمة اتخذت طريقها للحلّ مع وصول التوتير إلى مداه الأعلى. فالصراع الإيراني والأميركي ما يزال مندلعاً، وإيران مستمرةٌ في محاولات تسجيل النقاط. ولا ندري هل توافق سورية على الحلّ أو تشجّع عليه، ما دام أنصارها بلبنان ما يزالون هائجين، ولا يتوقفون عن كيل الاتهامات، والإنذار باستمرار التحركات. ثم إنّ النقاط المطروحة ـ وبينها رئاسة الجمهورية ـ لا تخدم الجنرال عون، الذي ستتضاءل حظوظُهُ في الرئاسة ما دام المطلوب رئيس تسويةٍ وليس رئيس صراع. وقد يكون ذلك بين أسباب هياجه يوم الأحد، ودعوته لحكومةٍ انتقاليةٍ تُجري انتخاباتٍ مبكِّرة، يعتقد هو أنه سيحصل على الأكثرية بين المسيحيين فيها، ولله في خَلْقِه شؤون!

حزب الله لاعبٌ إقليمي، ليس بسبب سلاحه فقط؛ بل وبقبضه على قرار الطائفة الشيعية. بيد أنّ المسارَ الذي سلكه بدءًا بحرب تموز، حمّل الطائفة أعباءً ناءَ كاهلُها تحت وطأتها. وقد أثبتت الاحتجاجاتُ والاعتصاماتُ الأخيرة أنّ «انتصار» الحزب على إسرائيل لا يمكن استثمارُهُ داخلياً بالطريقة التي أرادتها إيران وسورية، أي باعتبار تلك الاحتجاجات انتقاماً من الولايات المتحدة، ودرءًا لأخطار المحكمة الدولية عن النظام السوري. أمّا لجهة إعادة إعمار الجنوب والضاحية وبعلبك؛ فقد قام الحزبُ بدفعاتٍ إعلامية. بل ربما أعطى كلَّ أنصاره وبعضاً من غير أنصاره. لكنّ هذا التعويض شيء، وإعادة الإعمار شيء آخر. ولذلك فما كان مفهوماً تلك الحملة على رئيس الحكومة، ومن جانب السيد حسن شخصياً، والتي تتهمه في شرفه الوطني، وصولاً للقول إنه يتعمد ألاّ يبدأ بالإصلاح والترميم والإعمار، لكي يسخط الناسُ على حزب الله! بيد أنّ حزب الله وحركة أمل يعرفان من اللجان المشتركة مع مجلس الإنماء والإعمار والحكومة أنّ نصف القرى المتضررة جرى التعويض على المتضررين فيها، وأنّ البنية التحتية كلَّها رُمّمت، وعادت الكهرباء والمياه وتكاد الجسورُ تنتهي. وقد تقدم العربُ لإعادة الإعمار متقاسمين القرى المهدَّمة والمتضررة فيما بينهم. وكلُّ ذلك بسبب سمعة الرئيس السنيورة ومساعيه. فلن يستطيع أيُّ أحدٍ في هذا الظروف استنقاذ لبنان من الوهدة التي تردَّى فيها إلاّ من طريق التعاوُن مع الرئيس السنيورة وحكومته. وحزب الله (ونبيه بري أكثر) يعرفان ذلك. ولهذا يبقى لجوء السيد نصر الله إلى التأزيم الشديد بعد الحرب لغزاً عسير الفهم والتفكيك، إلاّ إذا أخذنا فعلاً بالبُعد الإقليمي للملفّات. فالأبعاد الإقليميةُ تغطّي بالكاد الأعذار الظاهرة مثل إطلاق سراح الأسرى سبباً للحرب، وإدخال وزراء لعون في الحكومة نهايةً لها!

أمّا الضَعْفُ الثاني والذي يواجهُ تأزيم حزب الله، فهو اشتعال الملفّ الشيعي/ السني. وما نسي أهل بيروت بعدُ استخدام السوريين لحركة أمل في الثمانينات في الاستيلاء على بيروت (إلى جانب حزب جنبلاط)، وفي محاصرة المخيمات الفلسطينية. وكلما تمادى الاعتصام، وتمادت الخطابات والدعوات الثورية؛ ازداد توتر أهل السنة، واعصوصبوا. وقد أقاموا يوم الأحد في 10/12 مهرجاناً ضخماً في طرابلس، رداً على مهرجان بيروت الكبير؛ إضافةً إلى عشرات التجمعات في المدن والبلدات. وما عاد لنُخَبهم ورجال دينهم عملٌ إلاّ الخطابة في المحافل والمنتديات والمهرجانات خلال الأسبوعين الماضيين، والقاسم المشترك في كل الكلمات: رئاسة الحكومة والسنيورة، خطٌّ أحمر، لا يُسمح لاحدٍ بتجاوُزه أو الافتئات عليه! وفي سياق هذا العصيصاب، تخلّف الرئيس عمر كرامي عن المجيء والخطابة في ساحة رياض الصلح ببيروت؛ وفي ذهنه أنه من العبث المجيء إلى بيروت للخطبة في أتباع حزب الله وعون وسورية؛ بينما بنو قومه يتظاهرون تحت شرفة منزله بطرابلس لصالح السنيورة وتيار المستقبل! وهكذا ما عاد فتحي يكن مفيداً ولا سليم الحصّ، وصار من الضروري مواجهة ساعة الحقيقة: المضيّ في النهج التوتيري (كما اتهمه الرئيس السنيورة)، وهو سيجد في ذلك داعمين من حلفاء سورية، ومن عون. لكن هل يستطيع السيد نصر الله تحميل الشيعة مرةً أُخرى أعباءَ نزاعٍ طائفيٍ ومذهبي، وهم ما خرجوا بعد من أهوال الحرب الإسرائيلية عليهم وعلى اللبنانيين؟! وهل تريد إيران (زعيمة كل الشيعة المُنظَّمين في العالم) فعلاً تحمُّل أعباء هذا الملفّ المُرعب (تغريب الشيعة عن مجتمعاتهم الوطنية؟) ولصالح ماذا؟ وكيف يمكن أن يكونَ ذلك مفيداً لها؟

انطلاقاً من هذه الاعتبارات كلّها، بدأ الحزب يفكِّرُ بالتفاوُض من جديد، وتجنُّب مزالق الشارع ومهالكه. لكنْ، كما سيواجِهُ مشكلاتٍ مع حلفائه الداخليين إن تراجع أو تنازل؛ فإنه مهدَّدٌ بمشكلةٍ في طائفته، وأُخرى لدى خصومه. مشكلة الطائفة الشيعية التساؤل عما جرى في الحرب وبعدها، ولماذا هذه القرارات الكبيرة المنفردة والتي تتعلق بمصير الطائفة والوطن؟! ثم ماذا سيقول محازبوه إن تراجع من دون أن يأخذ شيئاً ملحوظاً أو بارزاً ـ في حين يبدو الآن وكأنما كان يتهرب من التزاماتٍ استحقّت وعليه الوفاء بها: فتح مجلس النواب، والتخلي عن لحود!

لكنْ إذا كان حزب الله يواجه تحديات تحركاته وكلمات زعيمه في الشهور الأخيرة؛ فإنّ خصومه وشركاءه الإجباريين من السُنّة لا يقلُّون حَرجاً عنه. هناك المحكمة الدولية التي لا تنجو من مأزق حتى تقع في مأزقٍ آخر. وهناك تحدي النجاح في إدارة الشأن العام، وإعادة الإعمار، وفتح أفق مستقبلي للبنان بعد الظلام والإظلام. وما عاد من الممكن تحميل الجميع المسؤولية. فحتى أعداء السنيورة (والحريري من قبل)، يرون أنّ عرب لبنان من أهل السنة هم المكلَّفون بالإصلاح في الحال والمآل! وهناك النزاع الناشب إقليمياً بين أميركا وإيران، والتجاذب بين سورية ولبنان، وبين العرب وإيران. وكلُّها ملفّاتٌ ساخنةٌ ما عاد التفكير فيها والتصرف ممكناً بدون شراكةٍ سنيةٍ/ شيعيةٍ حقيقية، وتشاور استراتيجي في لبنان، شأن التشاور الضروري بين العرب وإيران. وهناك أخيراً الجمهور السني الهائل الاتساع والعُمْق، والذي ما حضر منذ النصف الأول من السبعينات، أيام أمجاد ياسر عرفات والمقاومة. لقد كان زعماء السنة يشكون غيابه، وهم فرحون الآن لحضوره، ومتهيّبون لهذا الحضور في الوقت نفسه. جمع نبيه بري عامةً شيعيةً حوله بدون إلزامٍ أو التزام. وجمع حزب الله جمهوراً هائلاً من حوله بإلزامٍ والتزام. أما سعد الحريري وفؤاد السنيورة فقد ألزمهم الجمهورُ السني بنفسه وبأهدافه، وسيكون على الطرفين تنظيم طرائق التحمل المشترك للمسؤوليات.

ما دخلت الأزمةُ اللبنانيةُ (التي أوجدها خلَلُ المقاييس في حرب تموز)، أُفُقَ الحلّ. لكنها تجاوزت ذروتها، حيث أقبلت الأطرافُ كلُّها باحثةً عن مخرج. والذي يدعو للتفاؤل: الحضور العربي البارز، وقيادة السنيورة، وبروز البطركية المارونية من جديد، واتجاه الصراع في المنطقة ـ باستثناء العراق ـ إلى مستقرّ أو تهدئة. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

* كاتب لبناني