حول حقوق الإنسان.. ابدأ بنفسك فانهها عن غيها

TT

انطلق اهتمامي الأول بحقوق الإنسان من «كوني إنساناً»، يريد أن يعرف ما هي حقوقه وما هي واجباته التي تقابل تلك الحقوق. ولأني مسلم معتزّ بدينه، فإن مصدري في التعرف على هذه الحقوق هو ديني الحنيف، وأعرف أن انتهاك حقوق الإنسان، معناه الظلم، وأن «الظلم ظلمات يوم القيامة». وقد أتاحت لي الظروف ـ بسبب الوظائف التي كنت أشغلها ـ أن أرأس وفود بلادي في مؤتمرات إقليمية وعالمية متعلقة بحقوق الإنسان في الرباط، تونس، مراكش، وغيرها، ثم في نيويورك (القمة العالمية للطفل وحقوقه).

من هذه المنطلقات الثلاثة المذكورة آنفاً، أود أن أقرر الأمور الآتية:

أولاً: إن حقوق الإنسان المهددة في عالم اليوم، التي يسعى المخلصون صادقين لحمايتها، والتي يتظاهر آخرون من الذين ينتهكونها بالعمل على حمايتها، هذه الحقوق أعلنت في القرن التاسع عشر الذي عُدّ قرن حقوق الإنسان، بينما حقوق الإنسان التي جاء بها الإسلام أشرقت شمسها على الدنيا قبل أربعة عشر قرناً.

ثانياً: حقوق الإنسان في المواثيق الدولية هي عبارة عن توصيات وأحكام أدبية، أما في الإسلام، فهي فريضة تتمتع بضمانات جزائية، ولا تقبل حذفاً، ولا تعديلاً، ولا نسخاً، ولا يستطيع الفرد أن يتنازل عنها، ولا تستطيع المؤسسات أن تلغيها.

ثالثاً: بالرجوع إلى مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948، نجد أنه لم يحدد الوسائل والضمانات لمنع أي اعتداء على حقوق الإنسان.

رابعاً: إن بعض الدول الكبرى تنتهك حقوق الإنسان انتهاكاً سافراً، وتتناقض في سلوكها. وتتبع المعايير المزدوجة. وقد ذكرني هذا عندما أرسل الاتحاد السوفياتي السابق الكلبة (لايكا) إلى الفضاء، قامت جمعيات الرفق بالحيوان في الغرب تستنكر بشكل عنيف، وجمعيات (الرفق بالإنسان) التي لا وجود لها ساكتة، حتى قال أحد الشعراء «مع بعض التصرف»:

إرسال كلب للفضاء

جريمة لا تُغتفر

وقتل شعبٍ آمنٍ

مسألة فيها نظر!

خامساً: إن المنظمات والجمعيات غير الحكومية التي نشأت للدفاع عن حقوق الإنسان وتقوم بأعمال تطوعية جليلة تستحق الثناء والتقدير، والتلاعب بحقوق الإنسان من قِبل بعض الدول الكبرى ـ التي أنشئت فيها تلك المنظمات والجمعيات ـ يجب ألاّ يجعلنا نغفل دورها، أو نغمطها حقّها.

سادساً: إن أعظم انتهاك لحقوق الإنسان هو الذي تمارسه أنظمة حكومية تسوغ تصرفاتها باسم القانون، وتسمّي الأشياء بغير أسمائها، وأوضح مثال على ذلك ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية مع شعب فلسطين، من قتل، وتعذيب، وتشريد، وتجويع، وتخويف، وهدم للمنازل، وإحراق للممتلكات، واجتثاث للأشجار المثمرة.. إلخ.

سابعاً: قدّر لي أن أكون ضمن مَن قابل الوفد الزائر حالياً للمملكة من (جمعية مراقبة حقوق الإنسان)، التي مقرها الرئيسي في نيويورك، الذين جاءوا حسب تعبيرهم ليتفقدوا (أحوال الإنسان)، المواطن والمقيم، تمهيداً لنشر تقريرهم عن حقوق الإنسان في بلادنا، وقد قلت لأعضاء الوفد: إن مثلكم كمثل طبيب أمامه مريض مصاب بداء عضال هو السرطان، ونقل له في حالة إسعافية خطيرة، فوجد في إبهامه جرحاً صغيراً، فانشغل بمعالجة هذا الجرح عن الحالة الإسعافية الخطيرة!.

إذا أردتم ـ أيها الضيوف الكرام ـ أن يكون لتقاريركم التي تداومون على نشرها بانتظام مصداقية، واحترام عندنا، وعند غيرنا، فأعلنوا وأدينوا الانتهاك المخيف لحقوق الإنسان الذي يحدث في بلادكم وسواها واعملوا على إيقاف كل جور أو ظلم، ثم بعد ذلك تعالوا إلى الآخرين، وترجمت لهم قول الشاعر العربي: ابدأ بنفسك فانْهها عن غيّها / فإذا انتهت عنهُ فأنت حكيمُ! وقلت لهم: ان حكومة اسرائيل تمارس العقاب الجماعي المتكرر لأناس أبرياء، عقابا يتمثل في قتل الأطفال، والنساء، وكبار السن من دون جريمة ارتكبوها.. بل انهم يقطعون الماء والغذاء في بعض الاحيان عن سكان احياء ومدن بكاملها، ويزجون بألوف الناس في السجون دون محاكمة، بل انهم يمارسون التفرقة العنصرية ضد مواطني دولتهم من العرب! ويقيمون جدار فصل عنصري لا شبيه له في أي بقعة من العالم فأين جهودكم للحد منها؟ أروني أثرها! هل تعلمون لتلك الانتهاكات في زماننا المعاصر مثيلا!

ويزيد الأمر خطورة ان الولايات المتحدة الامريكية ـ الحليفة الكبرى لاسرائيل ـ غير عابئة بهذا الظلم، وهي تسميه بالاجراءات الامنية الضرورية التي تتخذها حكومة اسرائيل ضد ارهاب الشعب الفلسطيني لها!! هذا الشعب المعذب المحتلة ارضه والمشرد عن بلاده.

حبذا ـ ايها السيدات والسادة ـ لو صببتم جهود جمعيتكم للضغط على حكومة الولايات المتحدة لتمنع اسرائيل من ارتكاب هذا الظلم والجبروت.

ثامنا: ان مجتمعنا في المملكة العربية السعودية ليس ملائكيا خاليا من الانتهاكات، لكن بعض ما يسميه الآخرون قيودا على حرية الانسان وانتهاكا لها ننظر اليه نحن بشكل آخر. فالحدود ـ مثلا ـ عندنا عقوبة شرعية لها ضوابطها، وليست وحشية يتنزه عنها (انسان الغرب)، والقيود الأخلاقية المفروضة على الشباب والشابات، والتي تمنعهم من انشاء علاقات ـ كما هي الحال في الغرب ـ تعاليم دينية سماوية ننصح الغرب ان يحذو حذونا فيها ليشفى من كثير من الأمراض: الجنسية، والاجتماعية، والأخلاقية، وبعض الانتهاكات، والاعتداءات هي شذوذات فردية يعاقب عليها القانون، وبعضها الآخر قيم اجتماعية يدور حولها نقاش وتختلف فيها الآراء مثل قيادة المرأة للسيارة.

تاسعا: أُنشئت في المملكة العربية السعودية جمعيتان للحفاظ على حقوق الانسان: واحدة «حكومية» وأخرى «أهلية». نرجو أن تحققا أهدافهما المنشودة، وان تطويرنا لانظمتنا المختلفة يجب ان ينبع من ذاتنا واقتناعنا، لا نتيجة لضغوط خارجية من هيئات أو جمعيات مشكوك في سلامة خططها وتحديد أولوياتها وحتى في معايير تقويمها، منظمات لا تعطى العناية الكافية بالشعوب الأكثر تضرراً تلك التي تجوع وتعرى.

عاشراً: إن انتهاكات حقوق الإنسان في المملكة إن وقعت فهي نتيجة خطأ، وليست نتيجة لقاعدة سنها القانون أو لنظام جائر لا يقيم لحرية المواطنين والمقيمين فيها حساباً. أحد عشر: وكنت مثل غيري في التعبير الواضح للوفد في أن معضلة إخواننا الفلسطينيين، وانتهاك اسرائيل لحقوقهم ينبغي لجمعيات حقوق الإنسان على اختلاف مواقعها أن تعطيها الأولوية على ما عداها، وأن الوصول إلى حل عادل دائم للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل الصراع العربي الإسرائيلي هو مفتاح لحل جُلّ ما ينغص على المنطقة استقرارها، وهي مفتاح للخلاص من انتهاك لحقوق بعض الشعوب العربية قد يقع عليها من قبل أنظمتها.

إثنا عشر: وأني إذ أشارك غيري من الناس الامتنان للفئات التي تتطوع بوقتها، وتوقف جهدها للعمل في جمعيات حقوق الإنسان دفاعاً عن حقوق الإنسان، والتصدي لمن ينتهكها، ويوقع الظلم على بني البشر فإني في الوقت نفسه أتمنى على هذه الجمعيات أن تحدد أولويات لعملها وجهدها وتسعى جاهدة لكشف الأذى الأشد خطراً والانتهاك الأكثر فظاعة. ثم بعد ذلك تلتفت للقضايا الثانوية. وفيما يخص الوفد الزائر لبلادنا من جمعية مراقبة حقوق الإنسان في نيويورك فإني لم أر وجاهة في عدد الزائرين فهم أكثر من عشرة، ولا في الوقت الذي سيمضونه بيننا وهو ثلاثة أسابيع، وفي يقيني أن الجمعيتين المحليتين لحقوق الإنسان بإمكانهما التصدي للشأن الذي من أجله جاء الوفد الزائر. وأخيراً فإني أرى أنه قد يكون من المناسب إنشاء مظلة تجمع هذه الجمعيات على مستوى العالم لتنسق فيما بينها حتى لا تتكرر الجهود وتتناقض التقارير. وفقنا الله جميعا إلى الخير والصواب وأمدنا بتأييده وتسديده.

* وزير المعارف السابق في السعودية