لعبة .. أكبر من اللاعبين

TT

سواء نجحت الوساطة العربية في حل أزمة لبنان أم لم تنجح، لم يعد مقنعا الادعاء بانها أزمة محض داخلية يمكن فصلها عن النزاعات الإقليمية الراهنة وفي مقدمتها المواجهة الاميركية ـ الايرانية .

مجرد قبول الجميع في لبنان بالوساطة العربية تسليم ضمني بان لا حل «لبنانيا» لأزمة حدد بعدها الشرقي المرشد الاعلى للجمهورية الاسلامية الايرانية، آية الله علي خامنئي، بتوعده، في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بـ«هزيمة» الولايات المتحدة في لبنان، وبعدها الغربي وزيرة الخارجية الاميركية، كوندوليزا رايس، بتحذيرها سورية وايران، قبل يومين، من ان مستقبل لبنان «غير قابل للتفاوض» حتى مقابل إحلال الأمن في العراق.

ليس جديدا على لبنان ان يكون ساحة لحروب الآخرين على ارضه .

هذا، كما يبدو، هو قدر الدولة الاصغر في منطقة تملك فيها كل دول الجوار «أسهما» في تركيبتها الديموغرافية بحكم الولاءات المذهبية لمكونات هذه التركيبة التي جنى عليها اتفاق سايكس ـ بيكو أكثر مما جناه اللبنانيون من الكيان الجغرافي الذي أعطاه لهم.

مع ذلك تبقى عقدة اعتصام المعارضين في بيروت طموحهم ـ كي لا نقول طمعهم ـ في أن «يقضموا» أكثر مما يمكنهم ان «يمضغوا» على مائدة التوازنات السياسية والطائفية في لبنان، أولا، وساحة موازين القوى في المنطقة، ثانيا.

قبول قادة الاعتصام بالوساطة العربية، ولو من حيث المبدأ، يوحي بأن حلف الاصوليين والوصوليين بدأ يدرك أن تصعيده للمواجهة مع الاكثرية البرلمانية يضعه في مواجهة واقعين يفرضان نفسهما فرضا عليه: 1 ـ كون اللعبة التي يخوضها الحلف على ارض لبنان باتت أكبر من قدرة اللاعبين المحليين على حسمها، 2 ـ وكون موازين القوى العربية ما زالت تملك الارجحية على أي قوى اقليمية أخرى في تثبيت الامر الواقع في لبنان القائم على اتفاق الطائف.

صحيح انه من المبكر بعد تقويم الحصيلة النهائية للمواجهة القائمة بين الاكثرية البرلمانية والمعارضة الشارعية. ولكن اللافت في هذه المواجهة انها لا تختلف بغير التفاصيل عن الأزمات السياسية السابقة في لبنان، فبصرف النظر عن الابعاد السياسية التي تعطى لها والشعارات «الوطنية» التي تتجلبب بها، سوف تظل، كسابقاتها، أسيرة حالة اصطفاف طائفي تخضع حسابات الربح والخسارة لاحكام المعطيات «المقدسة» للتركيبة اللبنانية العتيدة . والمفارقة الواجب تسجيلها في هذا السياق ان طروحاتها المتسرعة كان لها «الفضل الاكبر» في تجييش الاصطفاف الطائفي. طالما ظلت التركيبة السياسية اللبنانية طائفية بالدرجة الاولى، وطالما بقيت الاحزاب اللبنانية مجرد واجهات «عقائدية» للطوائف، ستبقى المكاسب السياسية للاحزاب اللبنانية رهينة التوازنات الطائفية (والمذهبية في الحالة القائمة اليوم)، وهي توازنات علمنا التاريخ اللبناني ان تبديلها من الداخل من رابع المستحيلات مهما كانت هامشية.

أي عودة الى التاريخ القريب تظهر ان معطيات «الامر الواقع» المذهبي ـ السياسي في لبنان تبدل مرة واحدة منذ الاستقلال عام 1943(وذلك من احكام الميثاق الوطني الى اتفاق الوفاق الوطني بين المسلمين والمسيحيين)... ولكن بثمن باهظ سدده اللبنانيون حربا اهلية دامت أكثر من خمسة عشر عاما. ومع ذلك لم يكرس هذا التبدل دستوريا الا بعد ان حظي بمباركة عربية في الطائف. ربما تصعب الاستهانة بثقل «الأمر الواقع» اطلاقا في أي كيان سياسي في العالم. ولكن «الامر الواقع» المذهبي في لبنان، رغم لاواقعيته، يتميز عن غيره بانه اصبح جزءا لا يتجزأ من التركيبة الوطنية نفسها الى حد جعل المطالبة باحصاء سكاني دقيق خروجا على المسلمات الوطنية.

فعلى سبيل المثال، وفي ظل التمثيل المذهبي «التقريبي» للبنانيين، لا يزال عدد نواب طائفة الموحدين الدروز موازيا لعدد نواب طائفة الروم الكاثوليك منذ أول ـ وآخر ـ احصاء سكاني رسمي في لبنان رغم التفاوت القائم حاليا في عدد ابناء الطائفتين. وكذلك الامر بالنسبة للسنة والشيعة، فقد يكون عدد ابناء الطائفة الشيعية أكثر أو أقل بعض الشيء من ابناء الطائفة السنية ولكنهم سيظلون متساوين في التمثيل النيابي بحكم «الامر الواقع» المكرس باتفاق الطائف.

باختصار، وعلى خلفية السوابق اللبنانية، يصعب الاخلال «بالامر الواقع» المذهبي من دون الاخلال باستقرار الكيان اللبناني باكمله، ويصعب تكريس «أمر واقع» جديد، ولو كان مدعوما بالتهديد الصامت لصواريخ حزب الله، من دون مباركة عربية، وعربية تحديدا، للواقع الجديد.

على هذه الخلفية بالذات تأخذ المبادرة العربية الراهنة بعدها الحقيقي، فأهميتها لا تقتصر على إضفاء «دستورية اقليمية» ـ ان صح التعبير ـ على أي تحول في بنية لبنان السياسية ـ المذهبية بل تتعداه الى قطعها الطريق على ما كان يفترض ان يكون «سابقة» في التسويات اللبنانية الداخلية، أي الدور الايراني الدخيل عليه، واستطرادا «الحصة» الايرانية في هذه التسوية.