هل ينقذ العرب أنفسهم؟

TT

سؤال يلح عليّ كلما تطلعت الى الموقف العربي عامة الذي هو شغلي الشاغل وشغل الكثيرين الذين يتحركون بين ما يشبه الامل وما يشبه اليأس، لا يبدون وكأنهم يستقرون عند احدهما حتى تأتي الرياح لتدفعهم الى الاتجاه الاخر.

اذا اخذنا لبنان أولا، فليس من شك ان الكثيرين بل الكثرة من الشعوب العربية (بما في ذلك غير المقتنعين بالخط الايديولوجي لحركة حزب الله والحركات الشعبية التي تخلط بين الدين والسياسة في مجالات يرون خطورة الخلط بينهما على سلامة كليهما) اقول ان الكثرة رحبت بمقاومة الحزب للعدوان الاسرائيلي الغاشم التي استطاعت ان توجه ضربات موجعة الى الاستراتيجية العسكرية الاسرائيلية، التي كانت تنطلق من الصلف وتتصور انها تستطيع أن تكون اللاعب الوحيد على الساحة الذي يملي منفردا قواعد اللعبة، وقد اقترن بهذا لحظة فريدة من الوحدة الوطنية اللبنانية ـ رغم الشوائب ـ، كان الأمل ان تتمدد لتساعد على تجاوز رواسب واحتقانات وعلى تحقيق حد معقول من الوفاق حول اساسيات متطلبات مستقبل لبنان في داخله وفي محيطه العربي والإقليمي. ولكن يبدو ان نشوة النصر قد اغرت بأمور لعله كان من الممكن معالجتها عن طريق استئناف حوار وطني حقيقي، لا يشوبه عناد وإصرار أو تكبر واستكبار او تعنت واستهتار بآراء الآخرين. ومن المؤسف ان البعض تصور أن المشاكل يمكن ان تحل في الشارع مع ان المظاهرات الشعبية من المفروض ان تكون تعبيرا وقتيا عن اتجاه لفريق من الرأي العام في لحظة معينة يحدد خطا معينا على السياسيين أن يأخذوه في الاعتبار فان أهملوه او اعتبروه امرا محتوما يكونون قد تخلوا عن مسؤولياتهم. وهنا افتح قوسا لأشيد بأن تلك المظاهرات جاءت سلمية رغم التراشق بألفاظ نارية لا اعتقد انه كان لها مكان في محاولة جادة لتحقيق تفاهم هو وحده ـ وليس القطيعة ـ القادر على حفظ لبنان ومصالحه واستقلاله، على أساس مبدأ ان الخاسر أو المنتصر لن يكون هذا الفريق او ذاك ـ مهما بلغ عدده او قوته ـ بل الوطن كله. وقوس آخر هو أن الولايات المتحدة التي شجعت مظاهرات واعتصامات مماثلة في دول اوروبا الشرقية واضفت عليها من المديح مختلف الالوان والاشكال، قد استنكرت مظاهرات واعتصامات بيروت ولكن هذا على اية حال موضوع آخر لا يصح ـ ونحن نعرف حقيقة نوايا واشنطن ـ ان يدفعنا الى أحكام لا نريد ان نصدرها انما ما يهمنا هو مستقبل لبنان. وقد اسعدني استئناف أمين عام جامعة دول العربية لجهوده الحثيثة الخيرة، وجهود الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل مستشار رئيس السودان التي ارجو ان تسفر عن تسوية مقبولة. ويعرف الجميع ان مشكلة الثلث المعطل أو الذي يطلق عليه غير ذلك من الأوصاف تتعلق بموضوع المحكمة ذات الطابع الدولي. وانا شخصيا كنت أفضل لو كان النظام القضائي اللبناني قادرا على معالجة موضوع الاغتيالات الاجرامية ومعاقبة مرتكبيها لأن المحاكم الدولية في مثل هذه الظروف ـ وكما أثبتت السوابق ـ تتعرض أحيانا لاعتبارات أو اهواء سياسية، ولكن ذلك لم يتيسر فيما يبدو ولذا أصبح من الضروري التعامل مع المحكمة الدولية بضمانات تضمن تعاون الجميع معها لاستجلاء الحقيقة ومعاقبة المجرمين، أيا كانوا وأينما وجدوا لأن ذلك في مصلحة الجميع.

المهم ان جهود الصديقين عمرو موسى ومصطفى عثمان اسماعيل يجب ان تنجح، ويجب ان تدعمها كل الدول العربية الحريصة فعلا على مصلحة لبنان والمصالح القومية العربية، ويجب ان تثبت القوى السياسية قدرتها على تجاوز نزعات كامنة أو واردة، تشعل نيرانا لن يستطيع أحد إطفاءها أو تجنب حريقها.

وإذا انتقلنا الى فلسطين، فان القلق والحسرة يتزايدان لأن الاداء أيضا يزداد سوءا، والتفاعلات تتصاعد مدفوعة بنوازع العناد والصلف والتكبر التي لا تليق بقوى وطنية اثبتت في الماضي قدرة على ان تتجاوز اغراءات الداخل والخارج مدركة انها في خندق واحد أو في سفينة لن يغرق منها جزء ويطفو جزء. وان منظر التصارع على سلطة تكاد تتلاشى بفعل العدو الرابض في النفوس بقدر ما هو رابض خارج وداخل الاسوار يقتنص كل ما يستطيع لخدمة مخططاته. هو منظر مأساوي مؤلم. ومن الضروري في هذه الظروف أن تكثف مصر جهودها في اتجاه الفلسطينيين بينما نحن نعرف الاسرائيليين ونواياهم وأهدافهم، وان تشارك في هذه الجهود كل القوى العربية متجاوزة كل ما يدفعها الى الانحياز لطرف فلسطيني او آخر. ولست أشك في أن المناضلين من فتح وحماس. وقد أظهروا في الماضي شجاعة في مواجهة الذات والغير. قادرون على ان يكبحوا نزعات ويسووا نزعات هي ابعد ما تكون عن متطلبات النضال الشريف للشعب الفلسطيني.

وكما نرى مما سبق فان العدو الأخطر في لبنان وفلسطين هو الفرقة بغير مقتضى، والتنافس على بيت يحترق. وقديما تعلمنا من سليمان الحكمة عندما اختلفت امرأتان على أمومة طفل فحكم بتسليم كل منهما قطعة منه فما كان من الام الحقيقية إلا أن فضلت التنازل عنه لإبقائه على قيد الحياة، فجاء الحكم لصالحها. وهي قصة تعلمناها صغارا، أفليس من العدل ألا ننساها كبارا؟

أما عن العراق ـ بينما مسلسل القتل والتدمير مستمر بفعل فاعل لا يمكن ان يكون ينتمي حقا الى العراق مهما كانت الحجج، فاذا كنا نتفهم ونؤيد اي مقاومة وطنية ضد الاحتلال، فاننا لا يمكن ايضا ان نسكت على صراع الأشقاء مهما كانت المبررات بينما الوطن كله يئن وتصل الأمور الى حد أن يدعي المدعون أن الحل لهذه الفوضى الدامية ان يبقى المحتل.

وقد علق الكثيرون على تقرير لجنة بيكر ـ هاملتون وما تضمنه من توصيات، وقد قيل الكثير مما كان يستحق ان يقال، ولم يقل بعض ما كان ايضا يستحق ان يقال، وقد نعود الى بعض ذلك، ولكن المهم ان نعرف ان بيكر وهاملتون وصحبهما كانوا ينطلقون من مصلحة الولايات المتحدة، وعلينا ان نقرأ ما أوردوه من منطلق مصلحة الشعب العراقي والوطن العربي. ولكن النقطة التي اريد ان أتوقف عندها هو أن واشنطن تجد نفسها في حيرة بين أمرين فهناك شبه إجماع على أنها خسرت الحرب في العراق من نواح كثيرة، فإذا استمرت ستزداد الخسارة وثمنها الذي يمتد الى ابعد من رقعة العراق ويمس اكثر من فقدان المال والرجال، واذا انسحبت مهرولة فستزيد وطأة الهزيمة من نواح كثيرة لعل أخطرها هيبتها في العالم وكشف نواح من العجز والقصور طالما حاولوا اخفاءها ففضحها الكثيرون ولعل آخرهم التقرير ذاته وكتاب «وودورد» عن «حالة الانكار» أي التعامي عن الواقع.

واذا لم يكن من مهمتنا ان ننقذ واشنطن من ورطتها، فان من واجبنا ان ننقذ العراق سالما معافى من براثنها ولن يتحقق ذلك الا بمصالحة وطنية لا أعتقد مع المتشائمين أنها أصبحت مستحيلة، ولا اتصور مع بعض الموغلين في التفاؤل انها سهلة، ولكنها تستحق المحاولة عن طريق استئناف جهود الدول العربية سواء منفردة أو في إطار الجامعة العربية ووضع الاسس السليمة لعلاقات عراق المستقبل مع أشقائه العرب وجيرانه الايرانيين والأتراك وقبل ذلك علاقات العراقيين ببعضهم البعض. قد تكون المهمة شاقة بعد ان عزز الغزو الامريكي المخاوف والأطماع ولكنها ليست مستحيلة وهي على كل حال تستحق المحاولة.

ان مستقبل العرب يتحدد في فلسطين والعراق ولبنان وهي مسؤوليتنا جميعا لصالح كل وطن وصالح كل الأوطان. ورغم العجز الظاهر احيانا فلست اشك في ان هناك قدرات وطاقات ونوايا طيبة نستطيع ان نستدعيها.