الثقافة أولا..

TT

يتساءل المفكر والسياسي الفرنسي آلان بيرفيت: «لماذا تستطيع الهند الجنوبية إطعام 385 شخصاً في الكيلومتر المربع الواحد، في حين أن أفريقيا الاستوائية، التي تسخو عليها الطبيعة بالمطر، والشبيهة بها من حيث مناخها وطبيعة أراضيها وتضاريسها، تكاد لا تستطيع أن تضمن إطعام أربعة أشخاص من سكانها، في الكيلومتر المربع الواحد؟ المؤكد أن البحث عن أسباب هذا الفارق الشاسع بين بلاد التامول والبلاد السواحيلية لا يكمن في الأرض، بل في البشر». ( آلان بيرفيت. المعجزة في الاقتصاد: من المدن الفينيقية إلى اليابان. بيروت: دار النهار، 1997، ص 32).

وبنفس المنطق يمكن أن نقول: كيف يمكن لليابان التي لا تملك من الموارد شيئاً، أو هولندا، تلك البلاد الصغيرة التي قهرت البحر، وصنعت ثروة من لا شيء، أو دبي، حيث لا زرع ولا ضرع، التي حولت الصحراء إلى مكان يأتيه السائحون والمستثمرون من كل فج عميق، أو سنغافورة أو ماليزيا، كيف أصبح كل هؤلاء من المنافسين في عالم اليوم، فيما بلاد أخرى تملك كل شيء ومع ذلك ليس لها ذكر في ماض أو حاضر، ولم تستطع أن تفعل شيئاً بتلك الثروة التي وهبها إياها الخالق، بل أن البعض منها يعيش على هبات وصدقات وإعانات من هو أقل منه فقراً في موارده، وإن لم يكن أقل منه فقراً في أمور أخرى، هي الأهم من منحة الطبيعة.

يجيب محمد بن راشد آل مكتوم جزئياً على هذا السؤال بالقول: «لا نستطيع أن نجلس ونكتف أيدينا ونقول: لا نعرف ماذا سيحمل لنا المستقبل! إذا تركنا الأحداث تصنع لنا مستقبلنا فإنها ستعطينا المستقبل الذي تريده، وليس المستقبل الذي نريده نحن. إذا تركنا الآخرين يصنعون مستقبلنا فإنهم سيعطوننا المستقبل الذي يناسبهم، وليس المستقبل الذي يناسبنا. إذا لم نختر المستقبل فإننا نختار الماضي.. المطلوب اليوم ليس تحرير أنفسنا من الماضي لأنه يعيش في ضميرنا، بل تحرير أنفسنا من البقاء في الماضي». (محمد بن راشد آل مكتوم. رؤيتي: التحديات في سباق التميز. دبي: موتيفيت للنشر، 2006، ص 50).

وبنفس المنطق يقول توني بلير: «إنني فخور بماضي بلادي، ولكنني لا أريد العيش فيه». بمعنى آخر، فإن الموقف من الأشياء، وليس ذات الأشياء، هو الذي يحدد الموقع والمكانة، سواء كنا نتحدث عن فرد أو جماعة أو حضارة أو بلاد معينة.

مشكلة التخلف والتقدم، العلو والدنو، مشكلة ذهنية في المقام الأول، وليست مشكلة مادية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، فكل هذه الأمور ما هي في النهاية إلا تجسيد لموقف معين، مفهوم معين، ثقافة معينة، عقل معين. ذهنية التحدي مثلاً، هي التي خلقت التجربة اليابانية، ومن قبلها التجربة الأميركية والإنجليزية، ومن قبل ذلك كله التجربة الفينيقية وغيرها من تجارب تركت بصماتها على تاريخ الإنسان، بل إن مؤرخاً مثل ارنولد توينبي جعل من مفهوم التحدي، الحجر الأساس في فلسفته للتاريخ، وتفسير كيف تقوم وتسقط الحضارات. فكلما كان التحدي أكبر، كان الإنجاز أكبر، والعكس صحيح. فالظروف القاسية المحيطة، إلى درجة معينة وفق فلسفة توينبي، هي التي تخلق روح التحدي في الإنسان، وتجعله يحقق المستحيل بعض الأحيان، بينما الظروف اللينة هي التي تخمد شرارة «بروميثوس» في الروح الإنسانية، ولا يعود قادراً على صنع الحضارة، بل هو استسلام كامل للظروف، حيث الروتين والركود والدوران في حلقة مفرغة، أولها مثل آخرها، وآخرها يعود بك إلى أولها.

ولكن، ربما، ما لم يتطرق إليه توينبي إلا من بعيد، رغم أنه الأهم في نظري، هو أن التحدي بذاته ليس المهم، بقدر ما أن المهم هو العقل، وبالتالي الثقافة التي تتعامل مع التحدي. فقد تكون الظروف المحيطة قاسية أو رحيمة بمن يعيش فيها، ولكن إذا كانت ثقافة الاستسلام لهذه الظروف هي القابعة في العقول، والمهيمنة على الأفئدة، والمحرك للسلوك، فلا شيء يمكن أن ينجز، حتى لو كانت كل خيرات الأرض متوفرة، أو كانت كل الخيرات مفقودة، وهو بالضبط ما يعبر عنه محمد بن راشد، حين يشد نفسه وبلده إلى المستقبل، مفهوماً قبل أن يكون واقعاً، أو حين يجل توني بلير ماضي بلاده، ولكنه يبقى إجلالاً لا مشروعاً. فأفريقيا مثلاً، من أكثر بقاع الأرض وفرة في الخيرات وثروات الطبيعة، ومع ذلك نجد أنها من أفقر بقاع الأرض، وأكثرها الذي يتعرض للمجاعات الدورية، فيما نجد الصين قادرة على إطعام سكانها، بل والمنافسة في عالم لا يستمر فيه إلا المتنافسون. سيرجع البعض مثلاً هذا الوضع إلى الاستعمار أو الإمبريالية، أو دول المركز ودول الأطراف، ولكن كل هذه التبريرات عبارة عن مشاجب لإلقاء اللوم بعيداً عن الذات المأزومة، فالكثيرون عانوا من الاستعمار والإمبريالية والهيمنة الخارجية، ولكنهم نهضوا وعادوا إلى المنافسة من جديد، بل إن الولايات المتحدة، التي هي سيد عالم اليوم بلا منازع على المدى المنظور، كانت مجموعة من المستعمرات التي لا حول لها ولا قوة، بل إننا نجد أن جنوب أفريقيا مختلفة عن بقية أفريقيا، والسؤال هو لماذا كان ذلك؟ ببساطة، لأن الثقافة المهيمنة على العقول في أفريقيا هي ثقافة الاستسلام لظروف الطبيعة، القاسي منها واللين: فإن كانت سنة ممطرة، كان الخير العميم، فكان زرعاً وكان ضرعاً. وإن كانت سنة جافة، كانت مجاعة ضاع فيها النسل والحرث، والكل هناك منتظرون لما تجود به السماء، من دون فعل أو رد فعل، بل هو الانتظار والاستسلام، وكل ذلك يكمن في العقل أولاً، قبل أن يكمن في السلوك. وجنوب أفريقيا لم تكن مختلفة ومتطورة، لأن من أسسها وقادها كانوا من المستعمرين البيض، أو لأن الإنسان الأبيض هو وحده القادر على صنع الحضارة، ولكن لأن الثقافة المهيمنة، والعقل الذي أفرز هذه الثقافة، كان عقلاً مختلفاً، وكانت ثقافة مختلفة.

وفي عالمنا العربي والإسلامي، دائماً نطرح هذا السؤال، منذ نابليون وحتى بوش، ولا نمل من تكرار السؤال: لماذا تقدموا، ولماذا تخلفنا؟ والجواب حقيقة لا يكمن في تدخلات الاستعمار، ولا في إجهاض مشروعاتنا النهضوية الكبرى، من محمد علي وحتى جمال عبد الناصر, ولا في مفاهيم التربص والترصد والمؤامرة، بقدر ما يكمن في الموقف الثقافي من العالم من حولنا. مفاهيم التحدي والتقدم والمستقبل مفقودة في ثقافتنا بشكل عام، وإن وجدت، فإنها تكون ذات منطلق آيديولوجي وليس حضاريا، وفق رؤية هذا الطرف أو ذاك، وليست كموقف ثقافي عام من الطبيعة والتاريخ، وهنا تكمن المشكلة.

كل مشاكلنا، وكل عثراتنا نعزوها إلى هذا الطرف أو ذاك، أما الذات فإنها بريئة من الذنب. مشكلتنا ثقافية في المقام الأول، وما لم تنقد الثقافة، وتجلب عقدنا إلى ظاهر العقل، فإننا سنبقى نراوح في المكان، والخيار لنا أولاً وأخيراً: فإما أن نكون من المنافسين فنحيا، وإما أن نكون من القاعدين فنفنى.