تقرير «لجنة بيكر»: الرد بتقرير عربي مماثل

TT

تتعرض المنطقة العربية لتغيرات كبيرة، تستدعي من الحاكم العربي أن يواكبها بإحداث تغييرات في السياسة العربية، تغييرات تحاول أن تستفيد من نتائج ما يجري. ولكن الملاحظة المحيرة، أن الحاكم العربي يتعامل مع هذه المتغيرات كمراقب، محبذا أو مدينا، ولكنه لا يبذل أي جهد للتفاعل معها. والتغيرات التي نقصدها أربعة:

أولا: المقاومة الوطنية للاحتلال الأميركي في العراق، والتي استطاعت أن تدفع الجيش الأميركي نحو الإقرار بعجزه عن السيطرة على الوضع، وهو اعتراف بالعجز يوازي الاعتراف بالهزيمة، حين يتعلق الأمر بدولة عظمى.

ثانيا: انتقال أزمة الاحتلال الأميركي للعراق إلى داخل الولايات المتحدة. وعبر عن ذلك بجلاء، تقرير لجنة بيكر ــ هاميلتون، الذي يؤشر إلى صراع سياسي كبير بين المحافظين الجدد المسيطرين على السلطة، وبين التيارات القوية الأخرى داخل الحزبين الجمهوري والديمقراطي، التي ترفض نهجهم وسياستهم ونظرياتهم حول إدارة السياسة الخارجية بالقوة العسكرية. وقد بدأ هذا الصراع يسفر عن دعوة لتغيير هذه السياسة (تقرير لجنة بيكر)، وعن استقالات لأبرز رموز هذه السياسة (رامسفيلد ــ وولش)، وعن تغيير نوعي في وضع الكونغرس الأميركي بعد فوز الديمقراطيين المعارضين بالأغلبية، وهي أغلبية بدأت تضغط على البيت الأبيض وعلى الرئيس الأميركي لإحداث التغيير المطلوب منه.

ثالثا: ما أسفرت عنه حرب إسرائيل الأخيرة ضد لبنان، من قدرة على مواجهة الجيش الإسرائيلي وتعطيل أهدافه الميدانية (الهجمات البرية)، ومن قدرة على نقل المواجهة العسكرية إلى داخل إسرائيل (الصواريخ)، وما أسفرت عنه بالمقابل من استعمال إسرائيل لسلاح الطيران من أجل إحداث تدمير واسع وشامل، يتعدى ميدان المعركة إلى التدمير المقصود للبنية التحتية للدولة، وهو نموذج قتالي جديد، يمثل رسالة إسرائيلية إلى كل دولة عربية تفكر في دخول صراع عسكري معها، حتى لو كان الأمر يتعلق بأراض محتلة لها (سوريا مثلا)، وهو أمر جدير بأن يدرس عربيا بعمق، وأن يواجه عربيا بعمق أيضا.

رابعا: قدرة المقاومة الفلسطينية المسلحة على البقاء والصمود في وجع الاحتلال الإسرائيلي، بالرغم من وجود هذه المقاومة داخل القبضة العسكرية الإسرائيلية، والتي تمارس ضدها عمليات قاسية (الاغتيالات ـ الغارات التدميرية ـ الاعتقالات الدائمة والمنهجية ـ التجويع)، ثم اضطرار المحتل الإسرائيلي للاعتراف بأنه لا يستطيع القضاء على هذه المقاومة (صواريخ القسام).

إن أي حاكم عربي يراقب هذا الذي يجري حوله، سيدرك فورا وبالبديهة، قدرته على الاستفادة من هذه الأحداث، ومن هذه التغيرات، لصالح بلده بالذات، إذا هو بادر إلى بلورة وسائل دبلوماسية جديدة، والدفع باتجاه وضع هذه الوسائل في حيز التطبيق. وحين يضع الحاكم العربي نفسه في هذا الموقع المتفاعل مع الأحداث، سيدفعه المنطق بالضرورة، إلى أهمية تطوير سياسته القطرية إلى نوع من السياسة القومية المتوافق عليها بين مجموعة من الدول العربية، وهو ما يطلق عليه عادة الحاجة إلى مبادرة سياسية عربية فاعلة ومستمرة. إن منطق هذا التحرك المنشود هو إدراك الحاكم العربي أن حماية وضعه القطري مرتبط أشد الارتباط بحماية الوضع القومي العربي من المخاطر المتفجرة بداخله (العراق ـ لبنان ـ فلسطين).

إن هذا الترابط بين المحلي والقومي، فرض نفسه على سياسة الولايات المتحدة، وهي الدولة العظمى الوحيدة في العالم الآن، وتم التعبير عن ذلك في تقرير لجنة بيكر الذي تركز حول مأزق أميركا في العراق، وإذا به يستنتج وبشكل أساسي، أنه «لن تكون الولايات المتحدة قادرة على تحقيق أهدافها في الشرق الأوسط ما لم تتعامل مباشرة مع الصراع العربي ــ الإسرائيلي. يجب أن يكون هناك التزام متجدد ومستمر بتسوية شاملة بين العرب والإسرائيليين». وحين يكون الأمر كذلك مع الولايات المتحدة، فإن الأمر يكون أكثر إلحاحا مع الدول العربية. وإذا كان تقرير لجنة بيكر يعبر عن هذه المسألة أميركيا، فإن الحاكم العربي يحتاج إلى تقرير مماثل، يفند السياسات القديمة المتبعة، ويقترح سياسات جديدة خلاقة. ولكن ما نشهده على أرض الواقع، وبكل أسف، هو استنكاف عن مجرد التفكير في هذه المسائل، مع انشغال بمسائل أخرى تحرف القضايا الأساسية نحو مسارات جانبية.

يحتاج الأمر أولا إلى إدراك عربي، بأن تغيرات كثيرة ومهمة قد جرت من حولنا، وأنه من الممكن عربيا الاستفادة من هذه التغيرات. هذه البديهية تكاد تكون غائبة عن السياسة العربية. كثيرون يتعاملون مع ما يجري بصفة «مراقب»، يتطلع ويلاحظ ولكنه لا يستنتج. وربما يعتبر أن الاستنتاج تجرؤ لا يقدر عليه. وبينما يخوض المجتمع الأميركي السياسي صراعا لتغيير نفسه، فإن كثيرين من الساسة العرب يتعاملون مع السياسة الأميركية على أنها قدر لا بد منه، وبراعتهم هي في كيفية التلاؤم مع هذا القدر، لا في كيفية مواجهته والتصادم عنه والأخذ منه في لحظة ضعفه. إن تقرير لجنة بيكر يدعو إلى الضغط على الحاكم العربي ليساعد أميركا في العراق، ولكن هل يدعو الحاكم العربي إلى الضغط على أميركا ليطلب مساعدتها الفعلية في حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي؟

يحتاج الأمر ثانيا: إلى جهد عربي من نوع خاص لبلورة سياسة جماعية. سياسة (وطنية) عربية، لمن لا يحبون استعمال وصف سياسة (قومية) عربية، وهو جهد لا بد من أن يبادر إليه طرف عربي فاعل (السعودية أو مصر مثلا)، فيقترح تشكيل لجنة عليا سرية للتشاور وتبادل الرأي واقتراح السياسات العملية، التي تتجاوز الشعارات والمطالب، والتي تتجرأ على صياغة مناهج جديدة للعمل، تنبع من التغيرات الجارية، ومن الأزمة التي تعيشها الولايات المتحدة كما تعيشها إسرائيل. مثلا: لم يعد من المجدي الاكتفاء بشعار إن خيار السلام هو خيار استراتيجي عربي، ولا بد من إعاد صياغة لهذا الشعار على ضوء تطور الموقف الإسرائيلي الرافض عمليا للمفاوضات والسلام. مثلا: مبادرة السلام العربية (مبادرة الملك عبد الله)، والتي كانت في حينها اندفاعا قويا نحو الأمام. لماذا لا يجري تفعيلها على ضوء التغيرات والتطورات، فيتم إسنادها بموقف عربي محدد وتفصيلي حول القدس ومصيرها. ويتم إسنادها بموقف عربي محدد وتفصيلي حول الجدار الفاصل وضرورة إزالته وإزالة الأضرار التي لحقت بآلاف الفلسطينيين بسببه. وقضية حق العودة التي ورد ذكرها في تقرير لجنة بيكر، وبدعوة صريحة لأهمية بحثها لأول مرة، لماذا لا يتم إسناد المبادرة العربية بموقف محدد وتفصيلي بشأنها؟ وفكرة تبادلية الأراضي بين الفلسطينيين والإسرائيليين والتي تم القبول بها في فترة ضعف فلسطينية، لماذا لا يتم الآن درسها من جديد باعتبارها فكرة مناقضة لمطلب المبادرة العربية بالانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي التي احتلت عام 1967؟ وهذه أمثلة وعينات فقط عما نعنيه بأهمية تفعيل المبادرة العربية، كجزء من عملية تبادل الرأي لصوغ سياسة عربية جديدة، وشاملة، تستفيد من أزمة السياسة الأميركية في المنطقة باقتراحات وخطط تساعد على حل الخلافات، ولا تكتفي بالدوران حولها فقط، أو مناقشتها من خلال التفسير الإسرائيلي لها.

وهنا يحتاج الأمر ثالثا وأخيرا: وبعد التداول المعمق في كل هذه القضايا، إلى قمة عربية شاملة تستعرض الخطة التي يتم بحثها وتقرها. ويكون من شأن هذه القمة أن تولٌد حالة قيادية للمنطقة العربية، تتخطى حالة الفراغ القيادي القائمة الآن.

إن الشرط اللازم وصولا إلى حالة عربية من هذا النوع، هو أن يدرك الحاكم العربي أهمية التغيرات الكبيرة التي تجري من حوله، وأن يدرك بشكل خاص أن السياسة الأميركية في المنطقة تعيش أزمة كبيرة، وأنه يستطيع أن يستفيد من هذه الأزمة لصالحه، فيتحول من متعامل مع السياسة الأميركية إلى بديل لها.