الجردل

TT

«ع الرصيف»

رئيس الوزراء الفلسطيني، اسماعيل هنية يجلس على الرصيف في الجهة المصرية من منفذ رفح، صورة نشرتها جريدة «الشرق الأوسط» على صفحتها الأولى. ترى كيف لرئيس وزارة قادته سلسلة من حساباته الخاطئة إلى الجلوس على الرصيف، أن يتوهم بأنه قادر على تصريف أمور شعبه، وهو غير قادر على تأمين كرسي بلاستيك يجلس عليه في الجهة الأخرى من الحدود؟!

حكومة «حماس» دعت أنصارها للنزول إلى الشارع، تعبيرا عن رفضهم دعوة الرئيس محمود عباس لانتخابات مبكرة. إذن نحن أمام حالة «شوارعية» بامتياز: «الرئيس ع الرصيف، والشعب في الشارع». ولكن رغم أهمية هذه الحالة، إلا أنني قررت أن أكتب هذا الأسبوع عن الجردل.

«القوميون العجم»

طوال الأسبوع، وبعد متابعة الشأن اللبناني خصوصا، والإقليمي عموما، ألح علي سؤال آخر، وهو: لماذا انقلب القوميون العرب فجأة وراحوا يناصرون مشروع قومية أخرى كانت على الدوام تستعلي على العرب والعروبة؟!

لا شك في أن معركة لم تعد مستترة، تدور رحاها بين العرب وإيران في عراق ـ الصدر، ولبنان ـ نصر الله، وفلسطين ـ هنية.

أين القوميون العرب عندما نحتاجهم؟ ولماذا أصبحوا قوميين عجما في ليلة وضحاها؟ هل تحولوا نكاية بأميركا؟ وهل هناك احتلال محمود، واحتلال مذموم؟ أم اننا نحارب الاستعمار «بالاستحمار»؟!

ولكن رغم أهمية هذه الحالة، إلا أنني قررت أن أكتب هذا الأسبوع عن الجردل.

«الشرع والشارع»

إلى أي شرعية يستند فاروق الشرع عندما يطلق تصريحاته التي تعكس مراهقة الشارع لا نضج الدبلوماسية في هذا الجو الإقليمي المعقد؟ نائب الرئيس السوري لا يستمد حتما شرعية من الشارع السوري، فهو معروف كناقل رسائل بمرتبة وزير، كوزير الشطرنج الذي تحركه يد اللاعب العليا. وهذا ليس غريبا على الساحة السورية، فليس الشرع وحده الذي كان وزيرا صوريا، ألم يتندر السوريون طويلا على أن مصطفى طلاس يعمل وزيرا للدفاع في أوقات فراغه!.

إذن، إلى ماذا يستند الشرع في عنجهيته؟ هل يستند الى قاعدته الشعبية من «القوميين العجم» ؟ وهل قلب العروبة النابض في زمن تهدد فيه الهوية العربية، أصبح اليوم قلب العجم النابض؟.

أسئلة كثيرة تدعو إلى الاستغراب. ومع ذلك فضلت الكتابة هذا الأسبوع عن الجردل. والحديث عن الشرع نقلة معقولة للحديث عن الجردل.

«الجردل»

في حوار شبه جاد، قدم إلي دبلوماسي عربي نابه نقدا لما أكتب في هذه الجريدة من توصيات سياسية تعتمد على مفاهيم علمية تعلمناها في مدارس العلوم السياسية. وكان اعتراضه أن المفاهيم الحاكمة للسياسة في العالم لا تصلح للتطبيق على بلادنا. فأن تقول مثلا بأن العرب يحتاجون إلى «توجه استراتيجي جديد» فيما يخص الصراع العربي ـ الإسرائيلي، أو أنهم يحتاجون إلى «تصور جديد للأمن الإقليمي» New Regional Security Framework، أو «منظومة لإدارة الأزمات» Crisis Management Scheme.

(يا دكتور ده كلام بعيد عن الواقع)، هذا ما قاله لي الدبلوماسي الدارس للعلوم السياسية في كبريات جامعات الغرب. وشرح لي عندئذ نظرية «الجردل».

الجردل لمن لا يعرفون العامية المصرية هو الدلو، أو «السطل» باللهجة الشامية. وتستخدم لفظة الجردل أحيانا للاستخفاف، فيقال رجل جردل، أي لا لزوم له (لا يهش ولا ينش).

قال الدبلوماسي: الأمور عندنا ليست كما هي عند الغرب، فمثلا غالبية البشر يعيشون في الغرب قي شقق أو منازل تتمتع بنظام صرف صحي متكامل. فإذا رشحت «حنفية» (صنبور ماء) مثلا، فلا تترك المشكلة كي تتفاقم ويمتلئ البيت ماء ويرشح على بيوت الجيران، ويلحق ضررا بالكهرباء أو الهواتف، فسرعان ما تبلغ إدارة المبنى التي تستدعي بدورها فريقا من المتخصصين في السباكة والكهرباء والهواتف، إلى آخر ما قد تتطلبه الحالة من فنيين يتلافون الخلل بمخططات مدروسة ومعدة للسيطرة على أي عطب طارئ. أما عندنا إذا ما حدث رشح مماثل في حنفية في أحد منازل الأحياء الشعبية، فإن الإسعاف الأولي الذي نلجأ إليه هو الجردل. نضع الجردل تحت الحنفية «إلي بتخر ميه»، ثم بعدها ننادي «الواد سيد العجلاتي» ليأتي لنا بوصلة خرطوم صغيرة ومفتاح ومفك، ونقضي النهار بين تفريغ الجردل من الماء وتغيير وصلة الخرطوم المهترئة أصلا ثم فك الحنفية، أو ندخل إلى الحل النهائي مباشرة ونقفل المحبس الأصلي «من بره» ونفصل الكهرباء، و«عينك ما تشوف إلا النور».

وهذا ما أمارسه بالضبط في عملي بالخارجية بشكل يومي. فى أعتى الأزمات وبعد استهلاك الوقت في اجتماعات وحلقات نقاش طويلة نستشهد فيها بمقالات أمثالك ونظرياتهم، ينفض المجلس ثم ننتقل إلى التطبيق العملي لما اتفقنا عليه، وفجاة يتحول كل هذا الحوار العلمي إلى «يا واد فين الجردل»، و«هات من عندك وصلة خرطوم»، و«حياتك مفتاح عشرة».

«خاتمة»

بالفعل تبدو الأمور للأسف كذلك.. فلننظر إلى ما يفعله الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، ووزير خارجية السودان السابق مصطفى عثمان اسماعيل، في لبنان. لا نرى في كل الصيغ المطروحة سوى الجردل ووصلة الخرطوم، (ولا أقصد هنا التقليل من الخرطوم العاصمة)، ترقيع من هنا و«تبويس شوارب» من هناك. تصوروا أن السودان الغارق حتى ذقنه في صراعات داخلية يملك أدوات لحل أزمة لبنان! وتصوروا أيضا أن اسماعيل هنية يقبل مبادرة السودان الممزق داخليا لحل أزمة الداخل الفلسطيني.

ثم ماذا سيدور في الذهن، عندما يكون الحديث عن الثلث المعطل والثلث المرجح، وتنحي رئيس الوزراء أولا كما يطلب نصر الله، أو تنحي رئيس الدولة أولا كما تطلب جماعة 14 آذار، سوى فلسفة الجردل والخرطوم.

اسماعيل هنية ذهب في جولة إلى قطر وإيران والسودان، وأتى بما أتى به، وهو يعرف تماما أن «الحنفية» الفلسطينية خرت حتى أغرقت الشارع. من المفترض أن هنية يعرف كل هذه المعطيات الدولية والإقليمية، ومن المفترض أنه يدرك مدى خطورة الوضع الداخلي الفلسطيني، لكنه أصر على أن يتعاطى مع المشكلة بفهلوة وبمفهوم الجردل والخرطوم، فأتى حاملا خمسة وثلاثين مليون دولار في الجردل، متناسيا أن المجتمع الدولي قفل المحبس من الخارج، وبناء عليه لم يكن أمامه سوى ترك الأموال في البنك الأهلي فرع العريش، ويجلس على الرصيف داعيا أنصاره إلى الخروج للشارع، والهتاف للجردل.

خطة بيكر ـ هاملتون، تبنت القضية الفلسطينية كجزء أساسي لأي سلام إقليمي. خطة متكاملة انعكست فيها تقريبا كل متطلبات العرب، واستجابت لكثير من شكاواهم. خطة «سباكة» متكاملة رغم أي تحفظ قد يقال. في هذه الخطة موضوعات جديدة مثل ضمان عودة الجولان السوري، وعودة اللاجئين الفلسطينيين، إلا أن «جماعتنا» يصرون على الحلول الجزئية التي تمر عبر نظرية الجردل.

دبلوماسيو «الجردل والخرطوم» سيقودوننا إلى التهلكة. المطلوب اليوم، على الأقل، فيما يخص ربع العالم العربي الذي يشب فيه الحريق، أن ننتقل من عالم «الجردل» إلى عالم التفكير المنظم، وان نسمي الأشياء بأسمائها من دون خجل أو مواربة. وأولى هذه التسميات، هي أن حربا تدور بين إيران والعرب، ساحتاها العراق ولبنان. وثانيها، أن ما يحدث في فلسطين يهدف إلى القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية. وثالثها، أن جماعة الإسلام السياسي بقيادة الإخوان المسلمين تحاول الاستيلاء على السلطة في أكبر دولة عربية، وأن المشكلة تكمن في أن للإخوان المسلمين مستوطنات داخل معظم الأنظمة العربية، وأن العالم العربي يتجه إلى حريق يحتاج إلى منظومة كاملة للإطفاء، فلم يعد ينفعنا الجردل.