ثقافة على قارعة الطريق

TT

في أحد الأسواق العتيقة بمدينة جدة كان ثمة رجل بسيط يفترش جانبا من الطريق يبيع الثقافة بقروش، فإذا ما أرخى الليل سدوله حمل كتبه على ظهره في كيس كبير ليختفي في العتمة قبل أن يشرق في المكان من جديد مع ولادة شمس يوم آخر.. لا تزال صورة ذلك الرجل النحيل تشع في الذاكرة بنظارته ذات الزجاج السميك التي تبرق من خلفها عينان قلقتان، واحدة تمسح الطريق خوفا من مراقب البلدية «عدو الثقافة»، والأخرى ترقب حركة الزبائن وهم يقلبون تلك الأوراق المصفرة كأشجار الخريف من الكتب الفكرية والمجلات الثقافية القديمة التي يجمٍعها الرجل من الأدباء المفلسين أو من تركات المثقفين الراحلين التي يجهل قيمتها الورثة المغفلون.

وإلى هذا الرجل يعود الفضل في ثقافة الكثير من الفقراء من أبناء جيلي الذين لم تكن لهم أية فرصة للتعرف على الكتب الأدبية أو المجلات الثقافية لو لم يسق القدر ذلك الرجل إلى امتهان هذا النشاط الذي لم يفكر فيه سواه في ذلك الحين.. فعبر ذلك الرجل قرأنا كتب العقاد وطه حسين والمنفلوطي وسارتر وغاندي ونيتشه وغيرهم، وتعرفنا على مجلات ثقافية كالهلال والمنهل والعربي الكويتية.

لو أن هذا الرجل لا يزال على قيد الحياة فهو يستحق من وزارة الثقافة السعودية تكريما خاصا يليق بدوره الثقافي في إيصال الكتاب الأدبي والمجلة الثقافية إلى أكف كانت تعاني من جفوة الرغيف وندرة الطعام، فلعل الرجل قد آمن مبكرا بضرورة الثقافة الجماهيرية فكسر احتكار النخبة لها وجعل الثقافة على قارعة الطريق ينهل منها الفقراء والعوام.

مرت كل هذه الصور في الذاكرة وأنا أحضر صباح السبت الماضي في الكويت حفل افتتاح ندوة مجلة العربي لهذا العام بعنوان: «المجلات الثقافية ودورها في الإصلاح الثقافي»، ذلك الحفل الذي ضم نخبة كبيرة من الأدباء والكتاب والناشرين من مختلف الدول العربية في محاولة من هذه المجلة الرائدة لترسيخ دورها الثقافي المميز التي اضطلعت به منذ نشوئها في عقد الخمسينيات من القرن الماضي ولا تزال، فلقد تعرفت على هذه المجلة أول مرة ذات يوم بعيد حينما رأيتها تزهو بغلافها الأنيق الوقور في «مبسط» ذلك البائع العتيق الذي بادلني أحد أعدادها القديمة برواية لنجيب محفوظ فرغت من قراءتها، فولدت في ذلك اليوم البعيد علاقة عشق خاصة مع هذه المجلة التي كان يشكل صدورها في مطلع كل شهر حدثا ثقافيا رائعا ينتظره الكثير من القراء العرب من الخليج إلى المحيط.. وظلت هذه المجلة رغم تقلب المناخ الفكري العام في عالمنا العربي إحدى علامات الصمود الثقافي الجاد والرصين في وجه ثقافة «التيك أوي» ومجلات الطبخ وقراءة البخت.. فلهذه المجلة الرائعة كل الإجلال وكل التقدير.

[email protected]